من جنوب الجزيرة، حيث الجبال تتهامس بأسرار قديمة، والرمال تحفظ خُطى القادمين من الغيب، هناك بلدٌ لم يكن يومًا كأي بلد.
ذلك هو اليمن، أرضٌ مرّ عليها النور مرارًا، أرضٌ استقبلت من حملوا في أرواحهم النداء الإلهي، ومضوا يُوقظون القلوب بكلماتٍ لا تشبه الصخب، بل تشبه الفجر.
في هذه الأرض، عاش نبي الله هود وهو من أوائل من نادوا بالبصيرة بدل البصر، نبيٌّ لم يُنادِ بالفرقة، بل بالتذكّر… بالتآلف… بالتعايش.
وفيها أيضًا، وُلدت جذور سلالةٍ طيّبة، سلالة سيدنا محمد عليه السلام ؛ وقد خرج منها من أضاء وجه الأرض بكلمةٍ كانت كالميزان: توازنٌ بين الرحمة والعدل، بين العقل والمحبة وفي لحظاتٍ أخرى من التاريخ وعلى شواطئ مخا، مرّ بها شابٍ مبشر وهو يحمل نداءً جديدًا، ليس غريبًا، بل امتدادًا لذلك النور الألهي.
كلّهم مرّوا من هنا.
كلّهم ساروا على هذا التراب.
كلّهم تكلّموا مع الروح.
فهل كانت صدفة أن تكون اليمن أرضًا لكلّ هذا النور؟
أم أن هذه الأرض، التي طيّبتها السماء، كُتِب لها أن تكون شاهدة على تتابع الوحي… على تنوّع الأصوات التي صدرت من قلبٍ واحد؟
لم تكن الرسالات يومًا متنافرة. كانت كالعطر، يتعدد منبعُه وتبقى رائحته واحدة:
رائحة الروح.
كلّ من جاء، لم يُلغِ من سبقه، بل أضاء له الطريق، وأضاف نغمة إلى السمفونية الكبرى التي تعزفها الإنسانية منذ الأزل.
في جوهرها، لم تأتِ الرسالات لتُقيم جدرانًا، بل جسورًا.
لم تُخلق الأديان لتكون هويات متقابلة، بل أنوارًا متكاملة.
ما كانت لتُفرّق، بل لتعلّمنا أن الاختلاف في المظهر لا يُلغي الوحدة في الجوهر.
وبينما نحني رؤوسنا احترامًا لتلك الأرواح التي مرّت من هنا، نسأل أنفسنا:
ما الذي تغيّر؟
إذا كان ماضي أجدادنا في اليمن ماضي الأنبياء، وماضي من حملوا عبق الوحي، وماضي أولئك الذين ساروا على درب النور قد تجلّى فيه الجمال والتعايش، فلماذا نعيش نحن، أحفادهم، في صراعٍ وتفكك؟
لماذا نحرم أرواحنا من هذا النور، وقد وُلدنا في أرضٍ باركها الوحي مرارًا؟ وقد سماها الله في محكم كتابه (بلدة طيبة ورب غفور)..
هل نُغلق قلوبنا عن النور الذي طالما زار أرضنا؟
ألسنا نحن من قيل عنهم “أهل الحكمة والإيمان”؟
أين ذهبت تلك الحكمة؟ وهل انطفأ ذلك الإيمان، أم ما زال جمرةً تنتظر من يُحييها؟
يا أبناء اليمن،
يا من كُتبت أسماؤكم على أبواب التاريخ بالنور،
يا من تحت أقدامكم نامت الرسالات، وعلى جباهكم نُقشت دعوات الأنبياء،
أردنا أن نعود لا إلى الوراء، بل إلى الحقيقة،
إلى جوهر الإنسان، إلى لحظة الفطرة قبل التفرّق،
إلى حيث لا نُصنّف بعضنا، بل نُصافح أرواحنا.
ليكن التعايش مبدأنا،
والسلام طريقنا،
والخدمة والبناء هدفنا.
لتكن أدياننا ألحانًا مختلفة في سمفونية واحدة،
ولتكن رسالات السماء سلّمًا نرتقي به نحو إنسانيتنا، لا سلاسل نقيّد بها بعضنا البعض.
من قلبٍ يُحب اليمن… ويؤمن أن التعايش ليس حلمًا، بل وعد حق آن أوان تحقيقه..
ودمتم في كنف الله، سالمين، ومؤيدين.