> د. سعيد الشهابي:

​لم يكتف الرئيس الأمريكي بتنصيب نفسه شرطيا على العالم، بل تبرّع بتعيين «إسرائيل» رديفا له. هذا ما توعّد به إيران الأسبوع الماضي عندما هدّد «باستخدام القوة العسكرية ضد إيران إذا لم توافق على إنهاء برنامجها النووي» مضيفا: «إن إسرائيل ستلعب دورا رئيسيا في ذلك». إنه يطرح أبعادا أخرى للنظام السياسي الجديد الذي يسعى لفرضه على العالم.

هذه التصريحات خاضعة للتفسير والتأويل، خصوصا أنها جاءت قبيل انعقاد المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران التي عقدت الجولة الأولى منها قبل يومين في سلطنة عمان. وبعيدا عن هذه التهديدات، فهناك اهتمام واسع بتلك المفاوضات لأسباب عديدة:

أولها أنها الأولى منذ فترة طويلة بين البلدين اللذين اتسمت علاقاتهما بالتوتر منذ الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979.

ثانيها: أن المماحكات بينهما استمرت حتى اللحظات الأخيرة، فهل ستكون مباشرة بين وفدي البلدين أم عبر الوسيط العماني الذي كان طالما سعى لجمع الطرفين على طاولة المفاوضات حول قضايا كثيرة من بينها البرنامج النووي الإيراني.

ثالثها: أنها قد تكون الأكثر حساسية لأنها تعقد بعد حوادث وتطورات عديدة من بينها الاعتداءات الأمريكية على المنشآت الإيرانية واغتيال عدد من رموزها البارزين.

رابعها: أن أجواءها سلبية بشكل عام وأن كلا الطرفين تظاهر بشحذ سيفه لمواجهة الآخر.

خامسها: أن مفاوضات عُمان يتم عقدها في أجواء فرضتها أمريكا بإرسال ست قاذفات بي-2 الشهر الماضي إلى قاعدة عسكرية أمريكية بريطانية في جزيرة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي، وسط حملة قصف أمريكية في اليمن وتصاعد التوتر مع إيران.

سادسها: أنها مفاوضات تتميز عن سابقاتها وتحمل في طيّاتها احتمالات متفاوتة بين التعاون الاقتصادي والاستثمارات من جهة، والاحتراب حول المشروع النووي الإيراني الذي تسعى أمريكا، بتحريض إسرائيلي، لتفكيكه. إنها ليست أجواء حوار حقيقي، بل تفرضها أمريكا بقوة السلاح وتعتبرها الفصل الأخير في مشروع ضمان الأمن الإسرائيلي وفق المعايير التي يرسمها قادة الاحتلال وفي مقدمتهم نتنياهو.

والسؤال الذي يفترض أن يطرح هنا: ما المبرّر للإشارة إلى «دور رئيسي» إسرائيلي في التصدي للمشروع النووي الإيراني؟ ما هي الأرضية الأخلاقية التي تقف عليها «إسرائيل» وهي التي تمارس القتل الجماعي يوميا وتحصد أرواح المئات من الفلسطينيين في غزّة، وترتكب جرائم ضد الإنسانية بمنع الطعام والدواء والماء عن الفلسطينيين؟
 
أليس لدى كيان الاحتلال مشروع نووي لا يخضع للرقابة التي يفترض أن تمارسها الوكالة الدولية للطاقة الذرّيّة؟
 
لماذا يغض العالم وبشكل خاص مجلس الأمن الدولي، الطرف عن ذلك المشروع ويصرّ على ممارسة سياسات انتقائية باستهداف البلدان التي لا تحظى برعاية أمريكية؟ كيف يمكن أن تكون منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل ما دام العالم يسمح لـ «إسرائيل» بامتلاكها وتكديسها؟
 
هذه الانتقائية في السياسات والمواقف لا تخدم أمن العالم واستقراره، خصوصا إذا كانت هناك دول لا تخضع للرقابة الدولية، بل يُسمح لها بامتلاك ما تشاء من ترسانة عسكرية ومشاريع نووية عملاقة؟ يضاف إلى ذلك أن «إسرائيل» لا تمتلك سجلّا نظيفا في مجال حقوق الإنسان أو الالتزام بالقرارات الدولية وتنفيذها، بل كثيرا ما وجهت لها تهم خطيرة من بينها «الإبادة» واستخدام الطعام والدواء سلاحا في المعركة.

بهذه السياسات والمواقف يسيء العالم لأمنه ومصداقيته، ويتخلّى عن قيمه ومبادئه ويقبل بالعيش على هامش الحياة من حيث الإرادة السياسية واستقلال القرار والحوار الإنساني الهادف لتثبيت أمن العالم واستقراره وحمايته.

التصريحات الأمريكية حول إيران، جاءت متزامنة مع خطوة أمريكية أخرى أدهشت كافة دول العالم، في ضوء قرار ترامب فرض ضرائب هائلة على التجارة بين أمريكا وبلدان العالم، بلغت في حالة الضرائب التي فرضها على الصين 125 بالمائة. وبرغم شعور ترامب بالثقة فقد اصبحت أجواء العلاقات بينه وبين حلفائه ملبّدة بشكل غير مسبوق بعد فرضه الضرائب المذكورة.

فأين ذهبت اتفاقات التجارة الحرّة التي وقّعتها أمريكا مع دول عديدة؟ وأين هي الروح التي تهدف لاحتواء بؤر التوتر في العالم ومفاوضات الحدّ من الأسلحة وتطوير آليات العمل الدولي لمنع نشوب الحروب في عالم يعيش هاجسها باستمرار بسبب سباق التسلح والإنفاق الهائل لإنتاج أسلحة الدمار الشامل؟ إن القرار الأمريكي يعكس أمورا عديدة:

أولها هشاشة الاقتصاد الأمريكي برغم قوّته، ورغبة حكومته في زيادة مدخولاتها الفيدرالية لمواجهة العجز خصوصا.

ثانيها: طبيعة تفكير رئيسه الذي لا يكترث بالآخرين ولا يهمهم إلا جمع المال بأية وسيلة.

ألم يتحدث قبل شهور فحسب عن رغبته في تحصيل تريليون دولار بأساليبه الملتوية كما فعل حين أجبر بعض الدول النفطية على دفع مئات المليارات؟
 
ثالثها: عودة أمريكا للتغوّل والانتقام والتنمّر. وهذا ما كشفت عنه تصريحات ترامب عن توجهه للضغط على دول الخليج لدفع أموال إضافية لأمريكا التي «حمتها من كل من العراق وإيران في حربي 1991 و 2003» حسب قوله.

رابعها: أن هذه الخطوات تؤكد توجه أمريكا للعزلة والانكفاء على الذات.

وهذا ما يشعر به حلفاؤها الحاليون. وليس مستبعدا أن يضحّي ترامب بأوكرانيا في الحرب مع روسيا، وذلك بوقف تزويدها بالأسلحة من جهة، ومد الجسور مع موسكو في ضوء العلاقة التي تزداد رسوخا بين رئيسي البلدين من جهة أخرى.

لذلك ينظر البعض للتهديدات التي وجّهها ترامب لإيران أنها ضمن الحرب النفسية الهادفة لاستحصال المال بالأساليب المذكورة.

فهل يرغب حقّا في خوض حرب مع ذلك البلد الذي لم يرتكب جرما ولم يصدر مجلس الأمن قرارا ضده؟ فبينما ترفض «إسرائيل» إخضاع مشروعها النووي للرقابة الدولية، وبينما تستمر في حرب الإبادة التي تشنها على غزة، وبينما تستخدم وسائل خارج القانون الدولي كالتجويع والحرمان من الدواء، فإن إيران لم تقم بشيء من ذلك. وأن مشروعها النووي مستمر تحت الرقابة الدولية التي تمارسها المنظمة الدولية للطاقة الذرّيّة.

بل أنها نفسها تعرّضت لعدوان إسرائيلي وأمريكي واسع في الشهر الماضية استهدف دفاعاتها الجوّيّة وقضى على معظم ترسانتها من صواريخ اس اس 300 الروسية. ولم يصدر عن المؤسسات الدولية شجب أو استنكار لذلك، الأمر الذي شجّع الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على غزّة. فهل يُعقل أن تمنح حصانة مطلقة لمن يمارس الإبادة والدمار الشامل؟
 
كيف يمكن التغاضي عن مشاهد الدمار الهائل الذي حوّل عمارات غزة إلى أنقاض لا تختلف كثيرا عن الدمار الذي أحدثته القنبلتان اللتان ألقتهما أمريكا على هيروشيما وناغازاكي قبل ثمانين عاما؟ وثمة من يتساءل عن جدوى رفع الشعارات التي لا تجد طريقها للتحقق، ومنها جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، في الوقت الذي تتسابق الدول الغربية فيه لتصدير أسلحتها الفتاكة خصوصا لكيان الاحتلال.

أما ما تمتلكه الدول العربية من سلاح فقد تم تحييده في الصراع العربي ـ الإسرائيلي منذ زمن.

ومن سياق ما يجري يتضح أن «إسرائيل» أصبحت صاحبة القرار السياسي والعسكري في المنطقة، بينما تخضع الدول الإقليمية الكبرى مثل مصر وتركيا وإيران لضغوط مستمرة لعدم ممارسة أدوار فعّالة في مجال الأمن السياسي والعسكري، ولا يُسمح لها بدعم المنظمات الفلسطينية لتستطيع الدفاع عن نفسها. الأمر المؤكد أن هذا الوضع لا يمكن استمراره طويلا خصوصا مع إصرار «إسرائيل» على التوسع من جهة والتخلص من الفلسطينيين خصوصا أهل غزة من جهة ثانية.

ولا شك أن وجود ترامب في البيت الأبيض ساهم في تسهيل ذلك كثيرا، ولكنه لم يحسم الصراع المستمر منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن.

كاتب بحريني - القدس العربي