> حلمي همامي:

​في سياق إقليمي بالغ التعقيد شهد تصاعدا غير مسبوق في التوترات بين إسرائيل وإيران، برز الموقف السعودي كعلامة فارقة ومختلفة في إدارة التوازنات الجيوسياسية.

وفي حين انجرت أطراف عديدة نحو الاصطفاف العلني، آثرت الرياض التزام الحياد كخيار إستراتيجي محسوب، لا يعكس فقط رغبة في تجنب التصعيد، بل يؤكد تموضعها الجديد كقوة إقليمية وازنة قادرة على التأثير دون الحاجة إلى الانخراط العسكري المباشر أو المجازفة بمكتسباتها السياسية والاقتصادية.

ولم يكن هذا الحياد مجرّد موقف ظرفي أو مناورة تكتيكية، بل تأسّس على رؤية شاملة تستند إلى المصالح الوطنية العليا، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشروع التحول الوطني الذي تقوده المملكة ضمن رؤية 2030.

وعندما بدأت المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران في يونيو 2025، وتحديدًا بعد الضربات الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نووية إيرانية، كان الموقف السعودي محط أنظار مختلف الأطراف الإقليمية والدولية.

وفي الوقت الذي شاركت فيه واشنطن بشكل محدود في العمليات، من خلال ضرب منشآت مثل موقع فوردو النووي المحصن، فضّلت الرياض النأي بنفسها عن دائرة التصعيد، بل وأفادت تقارير موثوقة أنها رفضت السماح باستخدام أراضيها أو أجوائها لأيّ تحركات عسكرية أميركية تستهدف إيران.

ولم يكن ذلك من باب التراجع أو الضعف، بل ضمن إستراتيجية شاملة تهدف إلى الحفاظ على استقرار المملكة ومصالحها الأمنية والاقتصادية، مع تجنّب الانجرار إلى مواجهات قد تخلّ بتوازنات حساسة في منطقة الخليج.

ويرى عدد من الخبراء والمحللين الدوليين أن السعودية تبني الآن ما يمكن وصفه بـ”دبلوماسية الحياد الفعّال”، أي موقف مستقل لا يُترجم بالصمت أو الانسحاب، بل بالانخراط الدبلوماسي الذكي.

ويقول الباحث البريطاني إليام فاخرو، المتخصص في العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، إن الرياض تدير هذا التوازن بحرفية، إذ تحافظ على علاقتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، دون أن تجعل نفسها أداة في مشروع عسكري إقليمي قد يهدد مكتسباتها الداخلية.

ويضيف فاخرو أن هذا النوع من الحياد هو شكل جديد من أشكال القيادة الإقليمية، حيث تعتمد السعودية على أدوات ناعمة مثل الوساطة، والدبلوماسية، والمبادرات السياسية، دون أن تفقد موقعها كطرف يُحسب له ألف حساب.

وفي خضم الأزمة، لم تكتف المملكة بموقفها الحيادي، بل بادرت إلى لعب دور التهدئة في الكواليس.

وأجرى وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان زيارة مهمة إلى طهران قبل الضربات الإسرائيلية، نقل خلالها رسالة سياسية واضحة مفادها أن التصعيد لا يخدم أيّ طرف، ودعا إلى الحفاظ على قنوات التواصل مفتوحة مع واشنطن.

ويعكس هذا المسعى السعودي، الذي تم بالتنسيق مع عواصم خليجية أخرى، حرص المملكة على تجنيب المنطقة سيناريوهات الحرب الواسعة التي قد تطال البنى التحتية الحيوية وتؤثر سلبًا على مناخ الاستثمار الذي تعمل الرياض على بنائه منذ سنوات.

ومن الناحية الاقتصادية، تبرز أهمية الحياد السعودي كرافعة لحماية مسار التحول الاقتصادي الطموح الذي تتبناه الدولة ضمن رؤية 2030.

وتقوم هذه الرؤية على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط، وتحقيق طفرة في قطاعات السياحة والصناعة والتكنولوجيا.

ولا يمكن أن يتحقق كل ذلك دون استقرار سياسي وأمني مستدام. وتعد الهزات الجيوسياسية، والتوترات الإقليمية المسلحة، من أكبر التهديدات للاستثمار الأجنبي، وقد أثبتت تجارب سابقة – مثل هجوم الحوثيين على مؤسسة النفط أرامكو في 2019 – مدى حساسية الاقتصاد الوطني لأيّ اضطراب في الإمدادات أو تضرر البنية التحتية.

ولهذا، بدا من المنطقي أن تتحرك الرياض لتجنيب نفسها والمنطقة أيّ تصعيد غير محسوب.

ويشير الخبير الأمني مهند العزاوي إلى أن الحياد السعودي يعكس تحوّلًا في مفاهيم القوة الإقليمية.

ولم تعد القيادة الإقليمية مرتبطة فقط بتفوق عسكري أو تحالفات ظرفية، بل بقدرة الدولة على صياغة موقف مستقل، يستند إلى مصالحها ويُراعي متغيرات البيئة الدولية.

ويرى العزاوي أن السعودية تنطلق من قناعة أن أمنها القومي لا يُصان فقط عبر تحالفات تقليدية، بل من خلال بناء علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف، بما في ذلك إيران، دون التنازل عن الثوابت، ودون الوقوع في فخ الاستقطاب الحاد.

وفيما تواصل الولايات المتحدة الدفع نحو توسيع اتفاقيات التطبيع المعروفة باسم “اتفاقيات أبراهام”، خاصة من خلال استئناف الحوار مع السعودية، تبدي الرياض موقفًا حذرًا.

وتدرك الرياض أن أيّ خطوة تطبيعية غير مشروطة قد تُفقدها رصيدها السياسي في الشارع العربي والإسلامي، وخصوصًا إذا ما جاءت في ظل استمرار القمع الإسرائيلي للفلسطينيين وتجميد حل الدولتين.

ولهذا، تشترط المملكة أيّ تطبيع بوجود مسار واضح وجاد نحو قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتعمل بالتنسيق مع أطراف أوروبية كفرنسا على صياغة مبادرات دولية في هذا الاتجاه، رغم أن الحرب بين إسرائيل وإيران عطّلت جزءًا من هذه الجهود.

ومن جهة أخرى، فإن الحياد السعودي، وإن بدا حلاً مثالياً في السياق الحالي، لا يخلو من تحديات مستقبلية.

وفي حال تجدّدت المواجهة بين إيران وإسرائيل، خاصة إذا ما تطورت إلى صراع مفتوح تشارك فيه الولايات المتحدة من خلال قواعدها في الخليج، فقد تجد المملكة نفسها أمام خيار صعب. لكن التجربة الحالية منحت الرياض ثقة مضاعفة في فاعلية نهجها، وأثبتت أن الحياد ليس انسحاباً من المشهد، بل تموضع يُعبّر عن قوة دولة تُعيد تعريف علاقاتها وشبكة تحالفاتها وفقاً لمصالحها.

وأحد التحديات الإضافية التي تلوح في الأفق، هو الضغط الأميركي المتزايد لدفع السعودية إلى العودة إلى مسار التطبيع، خاصة في حال انضمت دول أخرى مثل سوريا أو إندونيسيا إليه.

وقد أشار الباحث الأميركي ريتشارد غوزانسكي إلى أن هذا الضغط قد يرتفع إذا ما شعرت واشنطن أن السعودية قادرة على ترجيح كفة توازن إقليمي جديد لصالحها.

ومع ذلك، تبدو الرياض مصممة على عدم التفريط بموقعها الحيادي، وإدراكها أن أيّ شراكة إستراتيجية – سواء كانت دفاعية أو اقتصادية – يجب أن تكون عادلة، ومتوازنة، وتُراعي أولويات الأمن القومي والسيادة الوطنية.

ولم يعد الحياد، في السياق السعودي الراهن، مجرد موقف خارجي بل أصبح جزءًا من عقيدة سياسية شاملة. فالمملكة باتت تؤمن أن الاستقرار لا يُبنى على التبعية، ولا على الاصطفاف، بل على استقلالية القرار وواقعية التحليل، وهو ما جسدته في موقفها من الأزمة الإيرانية – الإسرائيلية.

وبهذا الحياد النشط، تُثبت السعودية أنها لم تعد فقط طرفا إقليميا، بل مركز ثقل سياسي قادر على رسم خرائط التهدئة وتوازن المصالح في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابا.
عن "العرب اللندنية"