> «الأيام» شائف الحدي:

صنعاء
صنعاء
صنعاء نكهة الماضي ووردة الحاضر ومحبوبة المؤرخين وملهمة الشعراء، تبدو كجوهرة نفيسة حافظ عليها التاريخ لثلاثة آلاف عام فقدمها لنا كوديعة ثمينة في صندوق مثخن بالكثير من الاسرار عن سفر أغواره التي لا تنتهي.

ويتضح من هذا التاريخ المفعم أنها مدينة نادرة بفنونها المعمارية الهائلة وتمتاز بمخزون من الكنوز التاريخية التي لا تقاوم استطاعت من خلالها أن تجسد لوحة معمارية فريدة من نوعها في عالم التراث، حيث يشعر الزائر لها وكأنه يعيش مع العصور الأزلية القديمة بين أغوار الحضارات، فملامحها لازالت كما هي منذ آلاف السنين لم تغير يد البلى إلا القليل من هيئتها التي تضرب في عروق التاريخ، صنعاء هي التاريخ إلا قليل .. الم يقل مؤرخو التاريخ إنها أقدم مدن الأرض بعد الطوفان؟!!

وتبدو مدينة صنعاء رابضة في فسحة مستوية وجبلي نقم وعيبان يحيطان بها من جهتي الشرق والغرب وكأنهما يراقبان ما كان يجري عليها من أحداث منذ فجر الأزمنة السحيقة.

ولهذا نجد أن مدينة صنعاء خلال أحقاب زمنية متفاوتة قد نالت نصيبها من وصف المؤرخين لها ومع ذلك فإن سحر مدينة صنعاء القديمة ذات الثلاثة آلاف عام أوسع من أن تحتويه آلاف الكتب والمخطوطات أو تدركه مفردات ظللنا نلوكها حتى فقدت معناها من التكرار.. «الأيام» تابعت رحلتها في هذه المدينة التي يعيش التاريخ بين ثنايا مفاتنها الساحرة ودونت هذه الروزنامة المصورة عن ما جاد به الزمان في ذكر أخبار صنعاء اليمن، فهيا بنا لنرحل مع نكهة الماضي لهذه المدينة التي استحوذت على قلوب البشر وألبابهم.

مدينة خالدة
صنعاء مدينة مليئة بالعجائب وفيها الليالي حبالى يلدن كل عجيب من خفايا وأسرار مبطنة لفصول تاريخية مختلفة، ففي ساحاتها تؤكد مسيرة الزمن وجودها وفي كل زاوية أو منزل تستوقفك الدهشة والتعجب!! فيما يختزلان وراءهما من سر أو حكاية تسمرت أمام مجديهما أنامل فلاسفة التاريخ وعجزت شطحات الأقلام عن وصف إبداعات فنون العمارة الأصيلة المتوارثة فيها التي لا يوجد لها مثيل في أي بلد في العالم.. حقا إنها مدينة عابرة من سفر أغوار التاريخ تناقلتها دويلات وممالك يمنية قديمة في مجاهل الزمن ولم تمسسها نوائب الدهر بسوء أو خراب حتى وصلت إلينا سالمة كما لو كانت كنزاً محفوظاً في صندوق توارثه الأبناء عن الآباء، ولهذا فلا غرابة إن قلت إن مدينة صنعاء القديمة حافظت على جمالها وبريقها الخلاب طوال هذه القرون الزمنية التي امتدت في جذور التاريخ البشري حتى استطاعت من ذلك التاريخ الطويل أن تكون مدينة خالدة على ظهر الأرض وفي قلوب البشر.

صنعاء في زمن غير هذا الزمن
صنعاء كان اسمها في القديم أزال، فهي قصبة اليمن وأحسن بلادها تشبه بمدينة دمشق الشامية لكثرة فواكهها ومياهها.. هكذا وصف ياقوت الحموي صنعاء اليمن في زمن غير هذا الزمن.

ويستطرد ياقوت الحموي في مؤلفه معجم البلدان فيقول: «سميت بصنعاء بن أزال بن يقطن بن عابر بن شالخ، وهو الذي بناها» ويضيف الحموي إن صنعاء كانت تعرف مرة بأزال وتارة أخرى بصنعاء.

صنعاء مدينة سام
جاء لسان اليمن وعبقري زمانه وفيلسوف أوانه الحسن بن يعقوب الهمداني في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، فأطنب كثيراً في وصف صنعاء إذ يقول في كتابه صفة جزيرة العرب: «صنعاء كان اسمها في الجاهلية ازال ويسميها أهل الشام القصبة أي المدينة الكبيرة وتقول العرب لا بد من صنعا وإن طال السفر.. وصنعاء أقدم مدن الأرض لأن سام بن نوح الذي أسسها وبناها، وبينها وبين عدن كما بينها وبين حر اليمن من ارض نجد والحجاز» ويقول الهمداني عن ارض سام:

ارض تخيرها سام وأوطنها

وأسّ غمدان بعدما احتفرا

أم العيون فلا عين تقدمها

ولا علا حجر من قبلها حجراً

لا بد من صنعا..

والكثير ممن قرأ عن مدينة صنعاء القديمة أو غرد في رحابها يؤكد أنها مدينة آسرة للقلوب تحتضن عشاقها بشيء من الحنين، ولذا لا غرابة إن اجمع مؤرخو التاريخ القديم أن الحادي كان يحدو في طريق العراق وغيرها وهو يقول:

لا بد من صنعا وإن طال السفر

وإن تجنى كل عود وانعقر

وهذا البيت كان يضرب على إمكان المستحيل وقد أورده ابن خرداذبه في (مسالك الممالك).. وقد اشتهرت صنعاء به كثيراً منذ القدم وهو أيضاً دليل على أهمية صنعاء في ذلك الزمان.

صنعاء في الكتب السماوية
إن مدينة صنعاء هي أقدم مدن الأرض بعد الطوفان، فلذلك نجد لها ذكراً في الكتب السماوية القديمة التي انزلها الله تعالى على أنبيائه، فهذا العالم والحكيم وهب بن منبه، الذي جاء في القرن الأول الهجري والذي اهتم كثيراً بمطالعة الكتب السماوية القديمة يقول إنه قرأ في الكتب السماوية التي انزلها الله تعالى فإذا فيها «أزال كل عليك وأنا أتحنن عليك».

صنعاء موضع اعتدال
ويذكر صاحب كتاب (الروض المعطار) عن مدينة صنعاء فيقول: «صنعاء مدينة عظيمة باليمن كان اسمها بالقديم أزال.. والذي أسس غمدان وابتدأ بنيانه هو سام بن نوح عليه السلام حينما سار يطلب حر البلاد وموضع اعتدال الحر والبرد فلم يجده إلا في جزيرة العرب في حقل صنعاء.. وكانت ملوك اليمن قاطبة تنزل بها، وهي ديار العرب ولملوكها بناء عظيم اسمه قصر غمدان...».

سام يرود الأرض
وعلى الرغم من أن مؤرخي التاريخ قد افتتنوا كثيراً بوصف صنعاء اليمن إلا إن الشعراء كان لهم أيضاً دور فاعل من خلال الأبيات الشعرية التي كانوا ينظمونها عن مفاتن صنعاء، فهذا الشاعر الحسن بن أحمد الهمداني يصف صنعاء بقوله:

ما زال سام يرود الأرض مطلباً

دهراً لخير بقاع الأرض يبنيها

حتى تبوأ غمدان وشيّده

عشرين سقفاً يناغي النجم عاليها

فإن تكن جنة الفردوس عالية

فوق السماء فغمدان يحاذيها

صنعاء ديار العرب
ويورد صاحب كتاب (نزهة المشتاق) محمد بن الإدريسي، عن صنعاء اليمن فيقول: «إنها مدينة متصلة بالعمارة وهي أقدم البلاد وصدر الإقليم وكانت ملوك اليمن قاطنة فيها وهي ديار العرب وكان لملوكها بناء كبير عظيم الذكر وهو قصر غمدان فتهدم وصار كالتل..» ويقول الملك التبع الحميري عن قصر غمدان:

لم تنم هامتي ولم أر أني **** نمت حتى اتكأت في غمدان

اتفاق في الوصف
وأثناء بحثي في كتب التاريخ المختلفة عما جاد به المؤرخون في ذكر أخبار صنعاء اليمن، وجدت أن ثمة اتفاقاً في الوصف بين المؤرخ إبراهيم الاصطخري في كتابه (مسالك الممالك) وبين مؤلفي كتاب (الروض المعطار) و(نزهة المشتاق) إذ يقول المؤرخ الاصطخري عن صنعاء في ذلك الزمن «ليس في جميع اليمن مدينة أكبر من مدينة صنعاء، بها كانت ديار ملوك اليمن فيما تقدم وبها بناء عظيم قد خرب فهو تل عظيم يعرف بقصر غمدان كان مقراً لملوك اليمن..» ويقول الشاعر امرؤ القيس في وصف قصر غمدان.

وكان لنا غمدان أرضاً نحلها

وقاعا وفيها ربنا الخير مرثد

خلاصة ما أوردناه
ومن خلال تلك الروايات والأحاديث التي واجهنا صعوبة كبيرة في البحث عنها حتى تصل إلى ذهن القارئ الكريم دون عناء، يتبين لنا إن مدينة صنعاء لا تزال إلى يومنا هذا تسمى بمدينة سام بن نوح عليه السلام ويدل على قدمها، ومدينة سام ورد ذكرها بنفس اللفظ في عدة مساند، كما أن الدكتور جواد علي في جزء 2 صفحة (252) من كتابه (العرب قبل الإسلام) قد أورد اسم المدينة بلفظ:

(هجر صنعو ورحبتين) بمعنى مدينة صنعاء ورحبتها.

وللباحث أشير أنه يوجد أيضاً مسند آخر في متحف صنعاء مكتوب فيه ما نصه:(ذات صنعن).