> «الأيام» عمر عوض خريص:

كنت أود أن أفرد لكل شاعر من هؤلاء الشعراء مقالاً خاصاً أتحدث فيه بالمزيد عن ابداعاتهم الشعرية ومراحل نضجهم الابداعي وخصوصاً بعد أن قطعوا شوطاً لا بأس به في قول الشعر ونظم قوافيه واكتمال صورته حتى استحقوا أن يشار اليهم بالبنان بأنهم أنجم بازغة في سماء الشعر تتهيأ لاحتلال مواقعها المرتقبة لتنطلق في توهجها شعرا وإبداعا، ولكنني آثرت أن أجمعهم في هذه المقالة تمهيداً ومقدمة لقادم الأيام وما تتمخض عنه تجاربهم الشعرية لا سيما أنه يتهيأ بعضهم لإصدار ديوانه الأول ويراجع الآخر ويزيد في باكورته، وأول هؤلاء الشعراء هو الشاعر محمد عمر باذيب المولود في شبام حضرموت عام 1964 ثم كانت الرياض مقر إقامته وفيها نشر أول قصائده الشعرية من خلال بعض المطبوعات حتى تتوجت بنشره في مجلة «الفيصل» وهي مجلة ثقافية ذات مستوى عال وكان ذلك برعاية أستاذه وراعي موهبته ومقدمه الأول د. محمد أبوبكر حميد، ولعل الجو العربي والاسلامي الملتهب في آواخر ثمانينات القرن المنصرم كان مؤثراً في تكوين الشاعر الثقافي في وقت كانت فيه مدرسة (الادب الاسلامي) في أوج نشاطها وتفاعلها الثقافي، في هذه الاجواء تبرعمت موهبة الشاعر باذيب وحاول أن يضع قدميه على الطريق الصحيح المؤدي إلى عالم الإبداع الشعري مشبعاً بقيمة الخاصة التي ورثها واكتسبها ثم صقلها بإيمانه بقضاياه ونضاله من أجلها، ولعل راؤه أخذته الى نشدان المجتمع المثالي الذي ود أن يكون واقعاً ملموساً يعايشه فلم يجده قائماً، فحاول أن يلتمسه في استرجاع العهد الاسلامي الأول كما أعرب عنه في قصيدته (يا خير صحب) قال فيها يخاطب مكة المكرمة:

أم المدائن هلا عدت بالزمن

إلى كرام هنا ساروا على سنن

أخالهم بين طواف وساجدة

وبين ضارب هام الظالم العفن

كانوا.. وهل تعرف البيداء غيرهم

خير العباد، كمال ضم في بدن

الحنين إلى ذلك العهد المثالي يتصاعد في نفسية الشاعر إلى مستواه الأعلى، فبعد أن يثنى على المعلم الأول (رسول الله صلى الله عليه وسلم) يتمنى لو كان هناك حاضراً ماثلاً، قائلاً:

ياليتني كنت تلميذاً بحضرتهم

ملقن الحق غضا من (أبي الحسن)

ويظل الشاعر متمسكاً بما خطه لنفسه من اتجاهات ارتضاها في ثبات متين لا يحيد عنها، وهي نفسها حتى عندما يغوص في أعماق نفسه المتأججة، ففي قصيدته (أغوار) نطالعه قائلاً:

قبلت طهر الصلاة حتى احتواني اليقـين

لا مست سـر الحياة عانقت روح المنـون

حتـى دعـوت الإلـه بخـاشع مسـتكيـن

قـد هيجته رؤاه فـي لحـظة من سكـون

فاستقبلت ذكرياتي.. مـن مستهل حياتي

بمنطقي وسماتي.. شخصاً بـراه الحنين

هذا الإيمان العميق واليقين الثابت جعلا من الشاعر ثائراً صاحب قضية يقدم في سبيلها كل غال ورخيص، وأول قضاياه هي تحرير الأقصى وتخليصه من المستعمر الغاصب، نراه يقول في قصيدته (ما أشبه الليلة بالبارحة):

حكايتي عن صلاح الدين أرويها

من نبع (حطين) استسقي معانيها

تسعون عاماً مضت والكفر في رغد

يعيث في ساحة الأقصى ويؤذيها

حتى أتاها صلاح الدين في غلس

فرنق الفجر قاصيها ودانيها

وحوله في رباط الخيل كوكبة

قد أقسموا أن يخوضوا في أعاديها

هذا كان شاعرنا الأول هنا بشعره وأحلامه ورؤاه الأولى وأمامه درب طويل يجب أن يقطعه وأن لا يتوقف حيثما كان بل يجب أن يكون مهيأً للانعطافات الكثيرة التي تنتظره في قادم الحياة. وأما ثاني الثلاثة فهو الشاعر جمال عبدالله حميد المولود في مدينة الشحر عام 1970 خريج كلية التربية، ظهرت ملكته في قول الشعر في منتصف التسعينات من القرن الفائت، وهو صاحب المطولات الشعرية والنفس الطويل، مثلما نظم مطولته الفريدة في مولد الرسول عليه الصلاة والسلام في 170 بيتاً، وأول ما نشر قصائده في مجلة «العالم الاسلامي» الصادرة من مكة المكرمة عن رابطة العالم الاسلامي. وأيضاً نشرت له دورية الفكر بحضرموت عدداً من القصائد كان آخرها قصيدته (هلال الربيع) في (42) بيتاً، ويمتاز شعر (جمال) بالمتانة في سبك المعاني وسلاسة المفردة وإشراق الرؤية ووضوح الصورة، يطرح قصائده في تلقائية مذهلة بعيداً عن تعقيد الرمز وهذر الكلمات، تتلمذ لشوقي وأحب أشعاره ومنه أخذ روح الشعر وبهاءه ورونقه، ويعجبني أن اطلق عليه (شاعر الحبيب صلى الله عليه وسلم) لما خصص من شعره في مدحه بل يكاد أغلبه فيه ولعله كاد يكون (برعي) هذا الزمان إذا استمر على ما هو عليه، فهو يحمل ذلك الحب العارم والهيام الكبير، ونرى في قصائده شوقاً مبثوثاً، فهو حينما يشد الرحال إلى زيارة المصطفى يشدو في قصيدته (في رحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ):

هذا الحبيب وهذه آثاره

هاقد دنا بعد بعد البعاد مزاره

يهناك يا عين المحب تمتعي

هذا حمى طه وتلك دياره

هيا اسكبي درر الدموع غزيرة

فلعل قلب الصب تطفا ناره

وأنى أن يُطفأ الشوق في قلوب المحبين الغارقين في حبه صلى الله عليه وسلم، وهذا الحنين في قلب الشاعر يعرب عنه في (31 بيتا) كان بيت القصيد فيه:

يا أعذب الاسماء أنت محمد

يحلو على الشفتين لي تكراره

ذكراه في ليلي وصبحي فاستوى

ليل المحب بذكره ونهاره

ولا تفوته أبدا ذكرى المولد الشريف، ففي احتفائه به يصوغ أجمل قصائده، مثل قصيدته (شهر الربيع) وقصيدته (هلال الربيع) المنشورة في «الفكر» العدد 27 التي مطلعها:

أهلاً هلال ربيعنا الوضاء

اشرق وعم الكون بالأضواء

أهلاً بمطلعك السعيد ومرحباً

فلأنت أكرم طالع بسماء

أن القلوب إليك جد مشوقة

شوق الظماء بقفرة للماء

وفي قصائده يعرج على هموم الأمة ومعاناتها في ايضاحات وإشارات كقوله:

دعني أبثك يا هلال ربيعنا

همي فقد غمر الأسى احشائي

القدس مازالت تئن بحرقة

تستتنجد الأحيا بكل نداء

ويسترسل عارضاً مآسي الأمة وباثاً شكواه إلى أن يقول:

والمسلمون أصابهم بذنوبهم

وهن، فهم- صدق النبي - كغثاء

حكامهم في غفلة عن ربهم

لاهون في الشهوات والأهواء

آساد في سحق الشعوب أشاوس

ونعائم جبناء في الهيجاء

يتوسلون السلم ممن لا يرى

سلما سوى بعواصف الصحراء

وكذا تثور ثائرته منافحاً ومدافعاً عن قضية العرب والمسلمين الأولى فلسطين. فيصدع بقصيدته (صرخة الاقصى) يستنهض بها الهمم، كما ثارت ثائرته مناصراً رسول الله صلى عليه وسلم فيما تعرض له من إساءات في الدنمارك، قال فيها:

الا الرسول الطاهر الميمون

ففداه تحلو للنفوس منون

وفداه آباء وأبناء لنا

ولأجله كل الوجود يهون

إلى أن يقول:

يا أمة الاسلام يا حكامنا

الذل مل ومل منا الهون

واستأسد السنور لما أن غفت

أسد الوغى ولها استبيح عرين

واليوم ويح اليوم قد بلغ الزبى

سيل العداوة واستطال المين

وأساء للمختار قزم حاقد

نتن المبادئ أهوج مأفون

زعموا بأن الرأي حر عندهم

كذبوا بل الرأي النزيه سجين

وهي قصيدة طويلة في (40 بيتاً)، ولو أردنا أن نعرض جميع شعره لما كفتنا الصفحات الطوال.

ولكن حسبنا أن نشير إليه هنا ونحثه على أن يظهر أغراض شعره الباقية حتى يتسنى لنا تقصي جوانب موهبته الشعرية الواعدة إن شاء الله.