> «الأيام» روماس عبدالقوي:

كنت قد قطعت عهدا على نفسي بالكتابة في موضوع سبق أن تناولته بداية هذا العام في هذه الصفحة الجميلة لعشاق الفن والطرب الأصيل عن الموسيقار الكبير سفير الأغنية العربية الفنان الموهوب فريد الأطرش، خصوصا بعد أن عاتبني الكثير من أصدقائي والقراء المتابعين من محبي هذا الفنان لتوقفي عن مواصلة الكتابة عنه.

ورغم أنني لم أنس قط الكتابة عنه في ذكرى رحيله السنوية في أواخر ديسمبر نهاية كل عام.. فأستسمحكم عذرا أيها القراء والأصدقاء عشاق هذا الفنان الكبير.. وها أنذا أفي بوعدي من خلال هذا الموضوع الشيق الذي سأتطرق إليه عن وصول هذا الموسيقار العبقري إلى العالمية، وعن روائعه وأسلوب أدائه الجميل، ومسيرة عطائه الفني بشكل مستلخص وقيم يفيد القارئ المهتم بعالم الفن وأهله، وخصوصا شباب هذا الزمن الذين لا يعلمون شيئا عن عالم الفن وعمالقته، ومن كان له الدور البارز والفضل الكبير في تطوير وتحديث الموسيقى الشرقية والوصول بها للمستوى العالمي.. ورغم الصعوبات والمآسي التي صادفها وألمت به، إلا أنه أبى إلا أن يتحفنا بموسيقاه الساحرة الشجية، وأغانيه العاطفية التي تدخل القلوب من دون استئدان.. وكوني أحد المولعين حتى الثمالة بهذا الموسيقار العبقري والفنان الكبير الفذ المرموق فبمجرد سماعي أغنية من أغانيه الجميلة أو لحنا من ألحانه التي تطرب الوجدان، أو صادف يوما ما في إحدى الجلسات الحديث عن هذا الهرم الغنائي الشامخ يأخذني الحنين ويشدني الالتياع، فأجد نفسي مجبرا على الكتابة عنه، فتنهمر الكلمات وتنساب من حبر قلمي المتراقص بين أناملي، فيشدو طربا بأروع الكلمات لتلك الألحان الخالدة في الوجدان، فإذا بي أغوص عميقا في سراديب تلك الألحان الجذابة والأخاذة المسيطرة على كل ذي إحساس مرهف منبعثة من محراب ملك العود والغناء العربي، وذلك للولوج إلى ما تصبو إليه النفوس الهائمة بأفراحها وأتراحها بسحر هذا الأمير الفنان صانع التطوير والتحديث لموسيقانا العربية.

تميز فريد الأطرش عن غيره من الملحنين بعشقه الخالص للموسيقى الشرقية، لذا نجده قد أدلى بدلوه في كل ألوان الموسيقى والغناء الشرقي وساهم في إثراء التراث العربي إلا في ناحيتين وهما (الدور) و(الموشح) فلم يقدم فيهما أي شيء، لكن الثابت أن فريد الأطرش أثرى الغناء العربي في الأغنية الفردية والطويلة على حد سواء.

أما في مجال الأغنية الحديثة فقد خرج فريد إلى آفاق أخرى غير اللون العربي، ولكن بإحساس الأصالة العربية، فاختار ما يوافق المزاج العربي ناقلا بعض الألوان الغنائية الأوروبية كالتانجو مثلا لأنه قريب من حيث الميلودي .. أو بعبارة أخرى من حيث الجملة اللحنية في التانجو وقربها من الرومبا التي هي من معالم الغناء العربي.

إن فريد الأطرش وإن كان قد حلق بالموسيقى العربية في الفضاء والتقط بعض الألوان الغنائية الأوروبية إلا أنه لم يطوع الموسيقى العربية للغناء الغربي، كما فعل محمد عبدالوهاب، ونمى وطوع الموسيقى الغربية للأغنية العربية خاصة والموسيقى الشرقية بصفة عامة.

هذه هي موسيقى فريد الأطرش تدل على قدرته ومكانته أينما حل ورحل، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تمكنه من أدواته الموسيقية وإبداعه الخلاق في مجال التأليف الموسيقي الذي كان كفيلا بأن تنصت إليه الآذان جميعا. أحب فريد الموسيقى منذ الصغر، وتعلم العزف في سن مبكرة لذلك يمكن تقسيم حياته إلى عدة مراحل موسيقية:

المرحلة الأولى: هي المرحلة التي كان يمهد فيها لإعداد نفسه جيدا، يمكن أن نطلق على هذه المرحلة مرحلة التمهيد التي استوعب فيها فريد شتى الأنغام من بدوية وتركية وسورية ولبنانية ومصرية، أي أنه أوجد لنفسه أرضية صلبة يقف عليها تكون بمثابة قاعدة الانطلاق.

المرحلة الثانية : هي المرحلة التي عمد فيها إلى التجديد واستعمال المطابقة الموسيقية للمعاني الشاعرية في الأغنية، ثم عملية المزج الفني التي نفذها بعناية فائقة بين الطابع الشرقي الشعبي والأرتام الغربية في التانجو والرومبا.. وتميزت هذه المرحلة باستخدام فريد الأوبريت استخداما جديدا من خلال أفلامه.

المرحلة الثالثة : تعد ألحان فريد في فيلم (حبيب العمر) بداية لهذه المرحلة، وهي المرحلة التي تستوعب كل الأفلام الغنائية الاستعراضية التي قدمها فريد بداية من (حبيب العمر)، وكانت الأغنية التي حمل الفيلم اسمها كلاسيكية في إطار شرقي .. ومنذ (انتصار الشباب) تطور فريد وتطورت ألحانه وأغانيه، فتطورت الأغنية من الكورال المنفرد في (انتصار الشباب) إلى الكورال الجماعي في فيلم (حبيب العمر)، وقد سبقت الأغنية مقدمة موسيقية استغرقت أربع دقائق ونصف الدقيقة لم تكن المقدمات الموسيقية الطويلة مألوفة بالنسبة للأغاني القصيرة في ذلك الوقت لأن الأغنية كانت تسبقها جملة موسيقية أو جملتان موسيقيتان، ثم يدخل المطرب إلى كلمات الأغنية.. وأغنية (حبيب العمر) استغرقت نحو 15 دقيقة وقد اشتملت هذه الأغنية على فصلا ونصف من فصول الفيلم، وقد ذاع صيت مقدمة الأغنية فاحتلت معظم موجات المحطات الأذاعية العربية داخل الوطن العربي، كما تضمن فيلم (حبيب العمر) تانجو (يازهرة في خيالي)، وهو العمل الذي وصفه النقاد بأنه (السهل الممتنع)، وبأنه كتب ليعيش ويحتل الآذان مدداً طويلة، وقد كان هؤلاء النقاد محقين فيما قالوا فقد صدق توقعهم، فبعد مرور عشرات السنين على اللحن أحضر بعض عشاق فريد الذين زاروا الاتحاد السوفيتي أسطوانة باللحن نفسه يغنيها مطرب روسي، وقد قيل بأن هذه الأسطوانة حققت رقما قياسيا في التوزيع داخل الاتحاد السوفيتي سابقا.

المرحلة الرابعة والأخيرة : بدأ فريد الأطرش يضع قدميه على أعتاب هذه المرحلة وهو في قمة العذاب، وقد شهدت هذه المرحلة مجموعة من أروع الألحان التي صاغتها أنامل موسيقارنا العظيم والتي مازالت تتلألأ كنجوم الليل وسط الظلام الموسيقي الذي نعيشه بعد أن طغت على أسماعنا موسيقى الأجهزة الكهربائية. ومن أهم الأعمال التي قدمها فريد في هذه المرحلة.. (أول همسة - الربيع - نجوم الليل - يا قلبي يا مجروح - سألني الليل - وتستمر هذه المرحلة إلى أغنيتي حكاية غرامي وعدت يا موم مولدي).. ويمكن أن نطلق على هذه المرحلة مرحلة الأغاني الكلاسيكية، فقد بدأ فريد يهتم بالتكنيك الفني مع محاولة تقديم العمل الفني بصورة متكاملة يستشف منها الجهد المبذول في العمل، بالإضافة إلى العمق والأصالة، ولقد ثارت ضجة كبيرة حول أغنية (الربيع) عند إذاعتها لأول مرة، ورغم ذلك فهي لاتزال الأغنية الأثيرة عند عشاق الربيع وعشاق الطرب، فتكون أول شيء يُستقبل به الربيع، ولقد أطلق على هذه الأغنية مجموعة من الأوصاف - وكان فريد يعتز بها جدا - فقالوا عنها أنها سيمفونية الموسيقى العربية، وقالوا إنها ملحمة النغم على طريقة وأسلوب الملاحم القديمة والمعلقات الخالدة، وأضافوا أن الأصالة الشرقية كانت هي الطابع الرئيس الذي يتكون منه اللحن من مقطع إلى آخر في هذه الأغنية، كما أن طول اللحن نفى عن الموسيقى الشرقية ماكان يطلق عليها بعض أعدائها من أنها مملة ورتيبة في كثير من الأحيان حتى أن اللحن عندما كان فريد يتغنى به في حفلة كان يمتد لأكثر من ساعة.

إذا كنا بصدد الحديث عن عبقرية فريد الموسيقية فلابد أن نوضح أن فريد كان دائما طموحا وحالما، وكان ينادي بضرورة نشر الموسيقى العربية والوصول بها إلى العالمية، ويعتبر فريد الأطرش من أوائل الملحنين الذين استعملوا التوزيع الموسيقي، لقد كان فريد الأطرش مجددا ومبتكرا، وكان فريدا من نوعه في مجال الموسيقى العربية وبرغم الشرقية الخالصة التي تشع من موسيقى فريد إلا أن ألحانا كثيرة أبدعها فريد أعيد توزيعها وغناؤها في باريس أولا، ثم في أماكن أخرى كثيرة من العالم، ويأتي في مقدمة الفنانين العالميين الذين قدموا أعمالا لفريد الأطرش المغني العالمي انريكوماسياس، وهو ينحدر من أصل عربي، والموزع الموسيقي الشهير فرانك بورسيل الذي أعاد توزيع موسيقى فريد أوركستراليا لعدة أغان منها (حبيب العمر) و(نجوم الليل) وموسيقى (ليلى) و(زمرة)، وكذلك المطربة الجزائرية الأصل ماياكازابياتكا التي قدمت من أعمال فريد (يا جميل يا جميل)، كما قدم أحد المطربين الروس أغنية (يا زهرة في خيالي)، وأيضا أعيد تقديم العديد من الأغاني بتوزيعات جديدة في تركيا ومنها (وياك) و(زنوبة).. وبهذا يعتبر فريد الأطرش سفيرا فوق العادة للموسيقى العربية في جميع أنحاء العالم.