> د. خطار أبو دياب
اهتز أمن الخليج العربي واهتز أمن الطاقة وتعرض السلم العالمي للتهديد مع تزايد المخاوف من احتمال تعطيل الملاحة البحرية في مضيق هرمز. لكن مؤشرات الحرب التي تظهر للوهلة الأولى لا تعني حكما اقتراب ساعة الصفر، لأننا أمام حرب من نوع آخر تتراوح بين الحصار الاقتصادي وردود الفعل المقننة والمتصاعدة وفق حسابات اللاعب الإيراني. وتكمن وراء ذلك رهانات طهران على عدم وجود قرار أميركي بالحرب أو بالعمل العسكري المباشر ضد إيران. توجد الكرة إذًا في شباك الرئيس دونالد ترامب ومصداقية إدارته، كما توجد مصداقية بلاده على المحك في هذه المنطقة الحساسة والحيوية وفي هذا الملف بالذات بعد حصاد غير موفق في الكثير من الملفات الخارجية.
هكذا يتدهور الوضع في منطقة الخليج العربي على ضوء التصعيد الذي تشهده بين إيران والولايات المتحدة، وتمثلت آخر حلقاته بهجوم 13 يونيو الذي استهدف ناقلتي نفط عملاقتين في خليج عمان على باب مضيق هرمز، بعد يوم بالضبط على هجوم صاروخي استهدف مطار أبها المدني جنوب المملكة العربية السعودية، وبعد شهر على عملية تخريب لأربع سفن تجارية قبالة ميناء الفجيرة في دولة الإمارات العربية المتحدة وعلى استهداف منشآت النفط السعودية.
ومن الواضح أن عدم تحديد المسؤولية عن اعتداء الفجيرة وعدم حصول رد على تهديد مصالح حلفاء واشنطن كما جرى الوعد سابقا، ربما شجَّعَا صانع القرار في طهران على التمادي وتجاوز الرسائل المعنوية التي أطلقها في مايو الماضي، والذهاب أبعد هذه المرة مع أعمال حربية موصوفة مثل ضرب مطار مدني سعودي بصاروخ باليستي بعيد المدى من قبل الذراع الإيرانية في اليمن، ومع استهداف إمدادات النفط والطاقة في ممر حيوي يعبره يوميا حوالي 20 مليون برميل نفط ويصعب على أي مكان آخر تعويضه.
وكل هذا يعني أن النظام في إيران غير معني بالإشارات الدبلوماسية لأنه يعتبرها تغطية على «الحرب الاقتصادية» التي تشنها واشنطن، ولأن نهج التفاوض مع واشنطن لم يعد يقنع المرشد وحلقته المقربة.
وليس من المستبعد أن يكون استهداف شحنات بتروكيماوية مرتبطا بقرار دونالد ترامب الأخير القاضي بتوسيع مروحة العقوبات الأميركية التي طالت النفط والغاز والمعادن لتشمل قطاع البتروكيماويات، وهو قطاع ضخم يأتي في المرتبة الثانية بعد قطاع النفط، ويقال إنه من مصادر التمويل المهمة للحرس الثوري الإيراني. وعلى ما يبدو تفاقم الوضع في قطاع النفط الإيراني مع قيام واشنطن في أواخر مايو بفرض عقوبات على أي شركة تأمين تقوم بتأمين سفن تنقل النفط الإيراني، كوسيلة لردع من يودّ استيراد النفط من هذا المصدر.
إنها ليست الحرب الكلاسيكية أو المبارزة التقليدية، بل المواجهة المتعددة الأشكال ويتم فيها تسجيل النقاط ورصد عناصر الضعف والقوة لدى الخصم. وردًا على ما يلامس الانهيار في الوضع الاقتصادي مع سقوط سعر صرف الريال الإيراني ووصول التضخم إلى 40 بالمئة، أتى الاستهداف في خليج عمان لتنفيذ التهديد بأن إيران لن تسمح بنقل النفط من منطقة الخليج إذا منعتها العقوبات الأميركية من تصدير نفطها، وورد ذلك قبل أسابيع على لسان الرئيس حسن روحاني وكبار القادة العسكريين. بينما لم يتلازم تصعيد العقوبات الأميركية مع تنفيذ واشنطن لوعيدها بالرد على كل ما يمس مصالحها أو مصالح حلفائها.
منذ انسحاب واشنطن من اتفاق عام 2015، حاولت الكثير من الدول المعنية السعي وراء محادثات جديدة بشأن كيفية حل المشكلة الإيرانية. لكن من خلال الأجوبة الإيرانية على المساعي الألمانية واليابانية والسويسرية نفهم أن القيادة الإيرانية ترى في التفاوض في ظل هذا الضغط تراجعا مذلًّا، في وقت تواجه فيه احتجاجات اجتماعية مقلقة وأكبر إنذار منذ انتفاضة 2009 الخضراء.
ولذلك كان من الأجدى لكل الحريصين على الاستقرار وأمن الطاقة كما يقولون، من الصين وروسيا إلى أوروبا واليابان، إخراج الملف الإيراني من الثنائية مع واشنطن وإعادته إلى مجلس الأمن الدولي ووضع أكبر المشكلات المسببة للاضطراب الدولي تحت المجهر إن لجهة الرقابة على القدرات النووية وبرنامج الصواريخ الباليستية، أو لجهة التوسع الإقليمي للثورة الإسلامية الإيرانية.
إزاء التردد الأميركي في التعامل الحاسم معها على غرار ما جرى خلال أربعة عقود من الزمن، تستمر «الجمهورية الإسلامية» في تماديها وتراهن على عامل الوقت في لي ذراع واشنطن. تعتمد دوائر طهران على معرفتها الجيدة بخفايا الحياة السياسية الأميركية وتعثر صنع القرار في واشنطن. كما تراهن طهران على دعم خفي صيني ولامبالاة روسية وميوعة أوروبية. وكل ذلك يجعلها لا تردد في اللعب على حافة الهاوية واللعب على حبال الارتباك الدولي غير آبهة بأمن الطاقة والأمن الإقليمي وعلاقات حسن الجوار، وفي خلفية كل ذلك رهانها الدائم على إنجاح مشروعها الإمبراطوري على حساب العرب ودولهم.