> تقرير/ سليم المعمري

على ارتفاع يزيد عن ألف متر على مستوى سطح البحر، تربض قرى عُزلة "صوالحة الجبل" في مديرية طور الباحة بمحافظة لحج، وحيدة متفردة بعُلوّها، وحرمانها من أبسط خدمات الدولة الأساسية.
الارتفاع الشاهق وغياب الطرق أجبرا الأهالي على حمل مرضاهم، لاسيما النساء التي تتعسر الولادة عليهن، على الأكتاف بواسطة (النقالات) والمشي بهن لمسافات طويلة تتجاوز الثلاث ساعات، فيما تضطر النساء إلى إحضار المياه من خزانات تجميعية (سقايات) في مواسم الأمطار، أو بجلبه من مسافات بعيدة تصل لنحو 9  كيلومترات أثناء نفادها.
وأشار مواطنون في أحاديثهم لـ«الأيام»، إلى أن الكثير من النساء تعرضن للموت غرقاً بسبب انزلاقهن في هذه الخزانات، أو للكسور بسبب وعورة الطرق الجبلية.

ونال أبناء المنطقة نصيباً وافراً من المعاناة، سواء بمساعدة الأهالي بنقل المياه على أكتافهم أو بالذهاب إلى مدارس مديرية حيفان المجاورة، لغياب المدارس في مناطقهم.
مواطنون: محرومون من جميع الخدمات الأساسية
مواطنون: محرومون من جميع الخدمات الأساسية

تضاريس جبلية
وتقع عزلة جبال الصوالحة في نهاية السهل الممتد من الرجاع إلى طور الباحة، وتبعد 90 كيلو متراً عن العاصمة عدن، بارتفاع (1030) متراً على مستوى سطح البحر، يحدها من الشمال مديرية حيفان، وجنوباً سوق طور الباحة وعزلة معبق، وشرقاً مديرية القبيطة، وغرباً قلعة المقاطرة.
وتنقسم الصوالحة جغرافياً إلى قسمين اثنين، هما: صوالحة الجبل، وصوالحة السهل، وتضم هذه الأخيرة قرى: الشعب، فظرم، البرح، الجربة، الربى، وهذه القرى تتوفر فيها كل الخدمات الصحية والتعليمية والمياه وغيرها من الخدمات نتيجة لوجود الطرق الممهدة إليها، ولقربها من سوق طور الباحة، حيث المشاريع التي ترصد لعزلة الصوالحة من الدولة أو من المنظمات الداعمة، غير أن الأمر مختلف تماماً في مناطق صوالحة الجبل، بسبب وجود طريق واحدة شديدة الوعورة، تصل إلى أسفل جبالها فقط، يجبر على إثرها المواطنون بقطع المسافة المتبقية سيراً على الأقدام لأكثر من ساعتين للوصول إلى قراهم في أعالي الجبال.

طرق وعرة
وهذه الطريق هي عبارة عن مجرى وادي ضيق تم إصلاحها بسواعد أبناء المنطقة في فترة الثمانينات من القرن الماضي دون أن تشهد أي تدخل من قِبل الدولة.
وأوضح المواطن حسن قائد أحمد الصالحي أن الطريق تنقطع أثناء مواسم الأمطار لفترات طويلة، ويضطر بسببها الأهالي إلى إصلاحها لعدة مرات في السنة الواحدة.

وأضاف في حديثه لـ«الأيام»: "ونتيجة للمطالبات المستمرة من قِبل المواطنين للجهات ذات العلاقة بضرورة شق الطريق وإيصالها إلى قرى صوالحة الجبل، نزل فريق للمسح على حساب الأهالي وتم الرفع بها إلى وزارة الأشغال العامة، وبالفعل تم اعتماد هذا المشروع عام 2010م، وكان من المقرر أن يبدأ شق الطريق من قرية الدحيص مروراً بقرية الكري ومن ثم إلى قرية الكرشوبة والنسيرة وصولاً إلى أعالي جبال الصوالحة، حيث ستلتقي مع طريق عزلة الأشبوط التي تمتد حتى سوق الربوع في مديرية المقاطرة، وكان هذا المشروع من شأنه أن يختصر المسافة بين سوق المفاليس في مديرية حيفان إلى سوق الربوع في المقاطرة بدلاً من الطريق الحالية التي تمر عبر المفاليس إلى سوق مديرية طور الباحة مروراً بعزلة معبق ومنطقة الشخير ووادي الأنبوة وصولاً إلى سوق الربوع، على الرغم من أن والمرور بوادي الأنبوة يشكل خطراً كبيراً نتيجة السيول الجارفة التي تسببت، في ما مضى، بغرق أكثر من 14 شخصاً، وجرف العديد من السيارات والقواطر الكبيرة في عام2017م، غير أن هذا المشروع، مع الأسف، لم يرَ النور بسبب الأوضاع التي توالت بعد عام 2010م.

ولفت إلى أن "هناك كانت محاولات لشق الطريق من الدولة في الشمال قبل الوحدة وتم على موجبها نزول وحدة شق متكاملة إلى الصوالحة، غير أنه تم إيقاف العمل من قِبل الجبهة الوطنية التابعة للجنوب، لخوفهم من وصول الطريق إلى أعالي جبال الصوالحة ذات الموقع الإستراتيجي الهام والمطل على معظم قرى مديرية طور الباحة ومدينة عدن والخط الرابط بين عدن والمقاطرة".

حمل المرضى على الأكتاف
فيما أكد د. ماجد حسن مسعود لـ«الأيام»، أن الأهالي يضطرون لحمل النساء متعسرات الولادة على الأكتاف بواسطة النقالات من هذه القرى إلى بداية الطريق بأسفل الجبل، يستغرقون خلالها أكثر من ثلاث ساعات مشياً، بسبب وعورة طرق السير المؤدية إلى بداية طريق السيارة، والتي هي الأخرى تسلك طرقاً ملتوية ووعرة وخطرة حتى الوصول إلى مستشفى طور الباحة.

وأضاف: "العديد من النساء وضعن قبل وصولهن إلى طريق السيارة وأخريات وضعن أطفالهن في السيارات نتيجة لطول المسافة وبُعد مستشفى المديرية، بل تستمر معاناتهن بعد الولادة، حيث يضطر قلة قليلة منهن إلى حمل أطفالهن إلى مركز الأمومة والطفولة في طور الباحة لتلقيحهم باللقاحات الروتينية، وهكذا تستمر معاناة الأمهات شهرياً، حتى ينتهي لقاح الطفل بعد سنتين، فيما الغالبية من الأهالي لا يتمكنون من تلقيح أبنائهم نتيجة لارتفاع قيمة إيجار المواصلات.
تُحمل فيها متعسرات الولادة على الأكتاف مسيرة ثلاث ساعات لغياب الطرقات
تُحمل فيها متعسرات الولادة على الأكتاف مسيرة ثلاث ساعات لغياب الطرقات

ومن جانب آخر، إن سكان هذه القرى من أطفال ونساء لا يحصلون على شيء من خدمات الرعاية الصحية الأولية، وهناك من الأطفال من يبلغون عمر العامين ولم يتلقَ أي لقاح، ناهيك عن خدمات الصحة الإنجابية للمرأة الحامل، حيث يمر على المرأة الشهر تلو الآخر وهي تعاني من فقر دم وسوء التغذية ومضاعفات الحمل الأخرى، كالضغط والسكر والنزيف وغيرها من المضاعفات الخطيرة، والتي قد تودي بحياة المرأة والطفل معاً، أيضاً زادت معدلات الإصابة بسوء التغذية لدى الأطفال أقل من خمس سنوات، وكذا الأمهات الحوامل والمرضعات، وكما هو معروف أن نصف الأطفال الذين يموتون تحت سن الخامسة كانوا يعانون من سوء تغذية، لأن العملية "الباثوفسلوجية" في الطفل المصاب بسوء تغذية تختلف عنها في الطفل السليم، فالطفل السليم قد يُعاني من أي مرض، ولكنه يشفى منه لكون أجهزته مؤهلة بشكل جيد، غير أن الطفل المصاب بسوء التغذية يمكن أن يفقد حياته لحاجة أجهزة جسمه إلى تأهيل، ناهيك عن نموه العقلي والجسدي الذي يؤثر عليه في حياته المستقبلية فلا يستطيع أن يندمج اجتماعياً، وفي العادة يكون تحصيله العلمي ضعيفاً جداً".

شحة مياه خانقة
ويؤكد المواطن بدر قائد أحمد ما قاله مسعود، ويضيف: "لم تقتصر معاناة النساء عند هذا الحد وحسب، بل مسلسل المعاناة متواصل وبشكل مستمر، حيث تقوم النساء جميعاً بجلب الماء على رؤوسهن من خزانات تجميعية تسمى "السقايات" من مسافة قد تصل إلى نصف ساعة ذهاباً وإياباً بواسطة دبب ماء سعة الواحدة منها عشرين لتراً، كما تضطر البنات الصغيرات كذلك إلى القيام بهذه المهمة الصعبة، بجلب أكثر من سبع عبوات ماء مختلفة الأحجام يومياً، ونتيجة لوعورة الطريق وانحدارها فقد وقعت وفيات كثيرة في صفوفهن نتيجة لسقوطهن في المنحدرات الوعرة أثناء جلب الماء أو سقوطهن في الخزانات التجميعية، لأن معظم فتيات المنطقة لا يُجِدن السباحة، فيمُتن غرقاً".

وأوضح أحمد في حديثه لـ«الأيام» أن مياه السقايات التي يتم تجميعها خلال فصل تساقط الأمطار تتوفر لمدة سبعة أشهر، وقد تقل بسبب ازدياد عدد أفراد الأسرة، الأمر الذي تُجبر على إثره النساء للذهاب إلى آبار المفاليس في منطقة وادي معادن، حيث يقطعن خلالها مسافة تقدر بنحو 6 كيلو مترات إلى نهاية طريق السيارة أسفل الجبل كمرحلة أولى، ومن ثم مسافة أخرى من أسفل الجبل صعوداً إلى القرى المتناثرة في قمم هذه الجبال ويقدر طولها بـ 4 كيلو مترات أخرى؛ أي أن إجمالي المسافة التي يقطعنها في سبيل الحصول على الماء تسعة كيلو مترات، في عملية تتكرر لثلاث مرات يومياً ولمدة تتجاوز نصف العام. ومنذ إنشاء مشروع مياه الصوالحة في ثمانينات القرن الماضي لم يستفد منه الأهالي بسبب قلة منسوب المياه في البئر الوحيدة المغذية للمشروع، كما تسببت الحرب التي تدور رحاها في هذه المنطقة بتدمير المضخة، حيث تعرضت لعدة قذائف.
تقطع النساء مسافة بنحو 9 كم لجلب دبة ماء سعة 20 لتراً
تقطع النساء مسافة بنحو 9 كم لجلب دبة ماء سعة 20 لتراً

افتقار للمدارس
فيما قال المواطن لبيب علي سعيد مسعود: "أدت الأسباب آنفة الذكر، بالإضافة إلى أسباب أخرى، إلى تسرب فتيات قرى صوالحة الجبل عن التعليم، وحتى اليوم، لم تسجل أي خريجة معهد أو كلية باستثناء خريجة واحد فقط، أما الأطفال الذكور فيتأخرون إلى سن الثامنة أو التاسعة ليتمكنوا من السير إلى مدارس طور الباحة أو مدارس مديرية حيفان للتعليم، والكثير منهم يتبرمون من مواصلة الدراسة نتيجة لبعد المدارس عن مناطقهم".

نزوح إجباري
ويشير المواطن أحمد قائد أحمد الصالحي، إلى أن جبال الصوالحة كانت تزرع عدة أصناف من الحبوب منها: الدخن، والغرب، والشعير، والهند (الذرة الشامية)، والمومة، والحلف، بالإضافة إلى القرع، وأشجار الزيتون، والليمون، وتسقى جميعها من مياه الأمطار الصيفية والشتوية ومن عيون المياه المنتشرة، قبل أن تجف منذ عقدين من الزمن، مضيفاً: "وبسبب نضوب هذه العيون والتي كانت تعد هي المصدر الأول للسكان للشرب والري، والجفاف الذي حلّ على هذه القرى اختفت الكثير من المحاصيل الزراعية، كما كانت الحياة البرية مزدهرة في هذه المنطقة بسبب توفر الحماية نتيجة التضاريس الجغرافية الصعبة التي عملت كحماية لهذه الأحياء من الصيد. ومن خلال «الأيام» ندعو المنظمات الدولة إلى إنشاء سد في هذه المنطقة كونها مهيأة لذلك لوجود أماكن تصلح لبناء الحواجز المائية، بالإضافة إلى الروافد، وفي حال تمت هذه السدود فإن من شأنها إعادة المياه السطحية للعيون والآبار الواقعة على طول الوادي، بل ستوفر على المواطنين متاعب جلب الماء من أماكن بعيده، والتي اضطر بسببها كثير من السكان إلى النزوح إلى المدن أو إلى أماكن قريبة من سوق طور الباحة، وقد سجلت الكثير من عمليات النزوح من هذه القرى، منذ ما يزيد عن مائتين سنة، إلى منطقة مودية بمحافظة أبين وإلى منقطة العند وإلى قدس بمحافظة تعز".

وتابع حديثه لـ«الأيام» قائلاً: "إن ما زاد الطين بلة أن المسؤولين والنخبة من الأطباء والضباط ودكاترة الجامعات والعاملين في سلك القضاء والمحامين من أبناء صوالحة الجبل يسكنون في المدن بسبب نزوحهم منذ سنوات مبكرة مع آبائهم للدراسة فيها، وبهذا تخسر الصوالحة خيرة أبنائها ممن يعوّل عليهم للمطالبة بمشاريع لهذه القرى النائية، بالإضافة إلى تدني المستوى التعليمي لدى الأهالي، الذي جعلهم لا يعرفون طرق للتواصل مع المنظمات الدولية والمحلية. وهنا نجدد مناشدتنا إلى الهيئات العاملة في البلاد والتي تأتي على رأسها منظمة الهلال الأحمر الإماراتي وكل المنظمات الدولية والمحلية بإعادة النظر في معاناة المواطنين في هذه العزلة المنسية التي تسبب موقعها الجغرافي في معاناة ساكنيها".​