> هانم جمعة
"دخلت بوابة فندق، في مدينة (إن إن) الإقليمية عربة صغيرة جميلة من تلك التي يستقلها العزاب، المقدمون المتقاعدون الضباط والإقطاعيون، الذين يملكون قرابة المائة نفس من الفلاحين، وباختصار أولئك الذين يعدون من السادة متوسطي الحال". بهذه العبارات استهل جوجول كلمات رواياته التي استمر في كتابة الجزء الأول منها 8 سنوات، أما الجزء الثاني والثالث فلم يبصرا النور واندثرا مع صاحبهما.
يدخل هذه المدينة البعيدة رجل يدعى "تشتيشيكوف" تبدو عليه ملامح الأناقة، ناهيك عن التهذيب والرقي في التعامل، ما يلبث حتى يستفسر من الخدم عن المسؤولين الأكثر نفوذاً ومالكي الأراضي الكبار. يزورهم يحادثهم ويذيقهم من طرف اللسان حلاوة، حتى إنه يستصغر نفسه أمامهم لكسب رضاهم ولإشباع غرورهم. وسرعان ما يحبه الجميع بعد أن يصنع لنفسه سمعة طيبة ويجعلوه مثلاً يحتذى به، حتى القارئ ذاته ينخدع من قِبل بطل الرواية، ولكن بالطبع هناك أمراً يخفيه هذا الرجل ويبحث عنه داخل بيوت الأغنياء ألا وهو "نفوس ميتة"!.
السخرية وسيلة للنقد
قدم جوجول شكلاً جديداً من الأدب يميل للطابع الكاريكاتوري الساخر في إبرازه طبيعة النفس البشرية وتناقضاتها بما فيها من جشع وطمع، حب التملك، التعجرف، الخوف، الظلم وفي تصويره لمجتمع مالكي الأراضي يقسم جوجول هؤلاء إلى بدناء سمان بوجوه مستديرة يحتلون المقعد الأمامي دائماً ويجلسون بثبات وثقة أينما كانوا، ويجمعون الثروات الكبرى، فيما النحيف بينهم لن تجد عنده فلاحاً لم يرهنه، ويتحدث بصراحة عن الفساد الذي يغذي طبقة من المسؤولين الحكوميين. يشعر القارئ في هذه الرواية بوجود المؤلف "فعلياً"، فالراوي خلق نوعاً من "النميمة" التي بطبعها تستدعي إحساس القارئ أنه جالس في جلسة مع متحدث لا تنقصه البراعة. لا يمكن لأي قارئ أن يتنبأ بأحداث الرواية أو حتى يخطر بباله ماذا سيحصل في نهاية الصفحة ذاتها، وهذا بحد ذاته براعة لا توصف، يظل كل شيء مشوق ما يشد القارئ، ويميز الرواية.
مشابهة الرواية بالواقع
حملت الرواية رسالة فاضحة وموجعة جداً، وهي كيف تصبح معركة الحياة عملية احتكار ومقايضة وحق التصرف في بيع الإنسان، أو انتهاكه، أو قتله تحت وطأة الصمت العميق. تشبه الرواية واقعنا العربي والأفريقي إلى حد بعيد. هو واقع دول نامية لا يسودها سوى الفساد والطمع والجشع، حتى بات الإنسان بلا قيمة أو معنى، فبعض الدول تتاجر بشعوبها وتضحي بهم دون شفقة ولو استطاعت أن تتاجر بأمواتهم وتبيعهم لفعلت.
حتى "النفوس الميتة"، الذي دار "تشيتشكوف" أنحاء روسيا لشرائها، لم يقصد بها الأموات أو من فقد حياته؛ بل قصد أيضاً أناس يتنفسون على الأرض ولكن نفوسهم ميتة لا يشعرون، لا يفكرون، يسودهم حب المال والتعجرف، يعيشون في خوف دائم وهاجس من فقدان ممتلكاتهم أو حتى مناصبهم، ولم يجدوا سوى الحسد والأذى والظلم وسيلة للاستمرار، وتجميع الثروات.
نهاية جوجول
لاقت الرواية نجاحاً باهراً، وبها تربع جوجول على قمة الهرم الأدبي في روسيا. لكن جوجول لم يكن مقتنعاً جداً بالذي كتبه، ثم بدأ النظر للموضوع من منظور شخصي. وبدأت تتسلل إلى رأسه فكرة دينية، فحواها أن الرب حباه بموهبة أدبية ليس فقط ليعاقب الفساد عن طريق إضحاك الناس، لكن ليسير بروسيا نحو الطريق الصحيح في عالم يسوده الشر. وعلى هذا الأساس قرر جوجول أن يكمل روايته على أنها مثل "كوميديا إلهية" نثرية. ثم دخل جوجول في متاهة دينية ووجد نفسه غير قادر على إكمال الرواية.