> «الأيام» عن "ساسة بوست"

حرصت دول عربية على إبقاء أبوابها مفتوحة أمام رموز الأنظمة البائدة التي ثارت عليهم شعوبها، وبالأخص في الفترة اللاحقة للربيع العربي. لتصير هذه الدول أشبه بمنفى وملاذ آمن بعيدًا عن قضايا الفساد التي طالت أسماءهم، أو مخبأ من غضب شعوبهم.

ويمكن القول بأن هذه الدول سعت لاستثمار هؤلاء الرموز المُقيمين على أراضيها باعتبارهم وسائل ضغط على حُكام بلادهم الجدد. وذلك قبل أن ينجحوا في إعادة ترميم نفوذهم البائد، والتحول من جديد إلى فاعلين مؤثرين، وورقة رابحة ومحطة نفوذ بالغة الأهمية للبلاد التي فتحت أبوابها لهم بعد فراراهم من مواطنهم الأصلية.
حُكام اليمن وتونس في قبضة السعودية
كانت السعودية أول من بدأ عهد احتضان حُكام المنطقة العربية التي ثار عليها شعوبها، مع انطلاق ثورات الربيع العربي. فقد احتضنت الرياض الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، لتكون ملاذًا له بعد نجاح الشعب التونسي في عزله من الحُكم، وسط مُطالبات بمحاكمته.

فبعد اتساع حجم التظاهرات المطالبة برحيل ابن علي، وفشل النظام في احتواء غضب الثوار عبر سلسلة إجراءات إصلاحية شملت قرارات إقالة لعدد من وزرائه، غادر ابن علي البلاد هو وأسرته في طائرة خاصة متجهة للرياض.

كان اختيار الرياض من جانب ابن علي، قد جاء عقب رفض عدة عواصم غربية استضافته، أبرزها باريس. فيما بررت السعودية، آنذاك، استضافتها للرئيس التونسي المخلوع من منطلق «عرف عربي»، يقول بأننا «كلنا عرب والمستجير يجار». وأن هذه «ليست المرة الأولى، التي تجير فيها المملكة مستجيرًا»، كما ذكر وزير خارجيتها آنذاك الأمير سعود الفيصل.

وعقب ورود اسم ابن علي في قضايا فساد صدر بحقه فيها أحكام قضائية، تراوحت بين السجن والإعدام بتهمة المشاركة في القتل العمد في حق المتظاهرين في ثورة الياسمين؛ طالبت تونس الرياض أكثر من مرة تسليم ابن علي لها، لكن ذلك لم يحدث.

وعلى الرغم من تشديد الرياض في تصريحاتها الرسمية على التزام ابن علي، تجنب التدخل في الشأن التونسي شرطًا لإبقائه على أراضيها؛ جاء الواقع مخالفًا لما روجته المملكة. فقد ظل ابن علي يواصل مهامه، بحسب شهادة لوزير العدل التونسي آنذاك، نور الدين البحيري، الذي أوضح أن: «ابن علي ما زال يستعين بشبكات لتهريب الأموال من السعودية عبر شبكات افتراضية وشخصيات وهمية، والدليل أنه ما زال هناك حراك واستعمال لحسابات بنكية في الخارج، وأمواله لا يمكن أن تجد هذه الحماية لولا وجود شركاء يساعدونه في الخارج».

وامتدت هذه المهام لاحقًا للتواصل مع بعض رموز تونس السياسية المحسوبة على نظام حُكمه، وذلك تحت مرأى ومسمع المملكة، عبر شبكة النفوذ المتبقية له في الرياض.

وإلى جانب ابن علي، كررت الرياض الواقعة نفسها مع الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، الذي فر هو الآخر للسعودية، عقب احتجاجات واسعة، متحججًا بالمرض والاحتياج للعلاج. ليتبع ذلك عودة صالح من جديد لليمن، قبل أن ينقلب على الرياض، ويعاود مجددًا فتح قناة للحوار معهم، قبل أن تنتهي مسيرته بقصف موكبه ومقتله.

لحق بصالح من رموز حُكم اليمن عشرات من المسؤولين طلبًا للحماية؛ لتستقبلهم الرياض ويصيروا وسيلة نفوذ لها في الداخل اليمني عبر شركائهم المحليين.

كان أبرز هؤلاء اللواء علي صالح الأحمر (أخ غير شقيق لعلي عبد الله صالح وأحد أبرز قادته العسكريين)، الذي سبق وأن تولى منصب قائد قوات الحرس الجمهوري، ومدير مكتب القائد الأعلى للقوات المُسلحة.

وتوزع قادة حُكم نظام صالح بين الرياض وأبو ظبي التي انتقل إليها هي الأخرى عدد من أرفع مسؤوليه، أبرزهم نجل الرئيس السابق الأكبر، أحمد علي عبد الله صالح، ثم لحق به شقيقيه مدين وصلاح.

وقد سعت الرياض وأبو ظبي إلى استثمار نفوذ قادة اليمن، ممن انتقلوا لهما عقب سقوط نظام علي صالح، في محاولة لنسج شبكة من النفوذ السياسي والعسكري لكلا البلدين عبر وكلائهم المحليين.
أبو ظبي وفلول نظام مبارك
في الأيام الأخيرة في فترة حكم الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، عقب انطلاق ثورة 25 يناير 2011، وتمسك المتظاهرون بمطلب رحيله؛ زار وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد القاهرة، ليكون آخر مسؤول رسمي يلتقي مبارك قبل مغادرة منصبه.

كان الهدف من الزيارة، التي أتت في توقيت استثنائي، طرح فكرة استضافة مبارك وأسرته في أبوظبي، غير أن الأخير رفض هذه الاستضافة وتمسك ببقائه داخل مصر، حتى بعد سجنه ومحاكمته أمام القضاء.

تبع ذلك هندسة سياسة لأبو ظبي من أجل احتواء قادة نظام مُبارك، ليكونوا أوراقًا تتسلل من خلالها للداخل المصري، وقتما تشاء. وتجلى ذلك عبر استضافة الفريق أحمد شفيق على أراضيها لسنوات طويلة، وكذلك مدير المخابرات العامة المصرية الأسبق عُمر سليمان هو وأسرته، وعدد من رجال الأعمال المرتبطين بالحزب الوطني المنحل.

الأمر الذي يعكس محاولة أبو ظبي السيطرة على المشهد، والاحتفاظ بأوراق قد تستخدمها وقتما تشاء، مثلما فعلت باستضافتها لفلول النظام المصري ومن ثم التخلي عنهم، مثلما حدث عندما حاول شفيق اقتحام المشهد السياسي المصري قبل عامين والترشح لخوض انتخابات الرئاسة، فقررت الإمارات رفع يدها عنه، ومنعته من مغادرة البلاد -بحسب ما أعلنه شفيق- بعد تطور الموقف في مصر، وما تبع ذلك من إعلانه الانسحاب والابتعاد عن خوض غمار الانتخابات الرئاسية.
مصر وتركيا والبشير
في أعقاب سقوط نظام الرئيس الراحل عُمر البشير، إثر تظاهرات واسعة تمسكت برحيله، سعت دول أبرزها تركيا في احتضان أبرز مسؤولي نظام البشير على أراضيها، مثل قادة نظامه، وأبرزهم أشقاء البشير ومساعده فيصل حسن إبراهيم، ومحمد عطا، القائم بأعمال سفير السودان في الولايات المتحدة، المتهم بارتكاب «جرائم حرب» بحق الشعب السوداني، حين كان مديرًا لجهاز الأمن والمخابرات الوطني.

وبحسب شهادات موثقة، فقد ارتكب عطا جرائم حرب في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وأمر بقتل أطفال أبرياء، ويعد مسؤولًا عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

القاهرة هي الأخرى كانت من الداعمين لاستضافة رموز نظام البشير، وتحديدًا صلاح قوش، مدير جهاز الاستخبارات السودانية السابق، الذي انتقل للعاصمة المصرية كما أكد مصدر مُقرب من قادة المجلس العسكري الحاكم، كاشفًا في تصريحات لـ «ساسة بوست» أن قوش انتقل إلى خارج البلاد، وتحديدًا إلى الإمارات ثم مصر، بالتنسيق مع جهاز الأمن و «تواطؤ» المجلس العسكري الذي سهل سفره إلى الخارج.

وحول احتمالية عودته إلى السودان، أجاب المصدر بمفردات حاسمة: «مستبعدة تمامًا نظرًا إلى أن جهاز الأمن تحت إمرته ارتكب جرائم قتل وتعذيب خارج القانون. وإذا حضر إلى السودان سيحاكم بفعل الضغوط الشعبية التي أثبتت أنها عامل مؤثر ومهم».

هذه الرواية التي أكدها مصدران على صلات وثيقة بالمجلس العسكري وقادة الحرية والتغيير، تتفق مع الرواية التي نشرتها صحيفة سودانية، من أن قوش شوهد في أحد مقاهي القاهرة برفقة حراس شخصيين مصريين. وحسب الشهود، فإن «صلاح قوش دخل أحد المقاهي في القاهرة، وعندما حاولت مجموعة من المقيمين السودانيين تصويره خرج من المكان برفقة حراس شخصيين، وركب سيارة مرسيدس يقودها مصري، وتبعته سيارة أخرى تابعه للمرافقين».

وقد تحول قوش لورقة نفوذ مصرية تستخدمها القاهرة في الداخل السوداني، عبر إعادة تقديم قوش بوصفه أحد الفاعلين في بلاده، ولا يزال قادرًا على ضبط الأوضاع الداخلية، والسيطرة على الأجهزة الأمنية التي كانت تحت إمرته؛ لتتسرب أنباء عن لقاءات جمعته مع قادة الحرية والتغيير في القاهرة، برغبة من السلطات المصرية والإماراتية.

وتحول قوش بالنسبة للقاهرة وأبو ظبي إلى خيار ورهان في التفاعل مع الأزمة السودانية، بعدما فشل كلا البلدين في كسب نفوذ التيارات المحسوبة على الثورة، ونجاح الجانب الإثيوبي في طرح نفسه وسيطًا موثوقًا، نجح في لم كُل الأطراف المتخاصمين.

وقد نفت قوى الحرية والتغيير هذه الأخبار لاحقًا، بينما كشف مصدر أن صلاح قوش التقى بعضهم لقاء منفردًا، بعد إقناعهم بأهمية الاستماع لقوش. وقد أكد المصدر ذاته بقاء صلاح قوش إلى الآن في العاصمة المصرية، كاشفًا عن أن السلطات المصرية بالتنسيق مع الإمارات تُدرك أنه ورقة رابحة لهم في الشأن السوداني، لا ينبغي التفريط فيه بسهولة، أو التضحية به تحت ضغوط من جانب قوى الحرية والتغيير، التي تُطالب بتسليمه.

ولعل إشارة الباحثة المصرية أماني الطويل، التي تعمل مديرة للبرنامج الأفريقي بـ «مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية»، على صفحتها بموقع «فيسبوك» إلى أهمية حضور قوش في أي تفاوضات حول مستقبل السودان، قد تكون مؤشرًا على الرغبة المصرية في الدفع بقوش للواجهة من جديد.
قطر ورموز نظام صدام
كحال الدول السابقة، مضت الدوحة نحو تطبيق نفس السياسة في بلاد الرافدين؛ لتنجح في كسب موطئ نفوذ سياسي لها في بغداد عبر استضافة العديد من رموز نظام حُكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، عقب وقوع عملية غزو واحتلال العراق في عام 2003 من جانب القيادة العسكرية الامريكية.

ووسط حملات شعبية مُعادية لرموز حُكم صدام، واستهدافات عشوائية لمنازلهم وأفراد أسرهم، بالتزامن مع صدور قوائم بأسمائهم للمحاكمة في ضوء ارتكاب أغلبهم جرائم حرب وعمليات إبادة، احتضنت الدوحة العشرات منهم، بالإضافة إلى قيادات أمنية ورموز إعلامية محسوبة على نظام صدام حسين، بعدما فروا من بلادهم؛ لتتحول الدوحة لمنفى لهم ولعائلاتهم.

ويمكن القول بأن هؤلاء تحولوا لاحقًا -وبعد تغيرات سياسة كبيرة في المشهد العراقي والانسحاب الأمريكي- إلى ورقة رابحة للدوحة، مكنتها من كسب موطئ قدم لها في الداخل العراقي. وشكلوا وسيلة نجاح رئيسية لقطر في كسب نفوذ سياسي في العراق، بعدما أدركت العاصمة الخليجية أهمية فتح قنوات اتصال معهم، مدركة نفوذهم ودوائر صلاتهم التي ستكون مؤثرة لاحقًا.

من بين هؤلاء الشخصيات ذات الثقل السياسي التي استضافتها الدوحة، وأصبحوا محسوبين بعد سنوات على تيار المعارضة في العراق، وزير الخارجية الأخير في نظام صدام حسين، ناجي صبري الحديثي، والمرافق الأقدم لصدام حسين أرشد ياسين، وأكرم المشهداني، وهو لواء سابق في الشرطة العراقيّة. كما يتواجد في قطر شخصيّات أخرى، مثل نائب رئيس الجمهوريّة الأسبق المدان بالإرهاب بحسب القضاء العراقي طارق الهاشمي، وشخصيّات معارضة تحمل صفات أكاديميّة وعسكريّة.

وقد انعكس سلوك الدوحة تجاه رموز نظام حقبة صدام حسين في تفوق قطري ببغداد، كان أبرز مؤشراته هو اقتراب رئيس البرلمان السابق سليم الجبوري، المدعوم قطريًا، من تولي منصب وزير الدفاع في حكومة عادل عبد المهدي، على خلاف وجهة النظر السعودية التي كانت تدفع نحو ترشيح مرشح من ائتلاف الوطنية بزعامة إياد علاوي أو الأطراف التي لا ترتبط بعلاقة مع تُركيا وقطر.

وبحسب لقاء مكّي، وهو إعلامي عراقي رحبت به الدوحة على أراضيها، فإن «قطر الرسمية تؤكد صداقتها مع العراق، ولم تتبن موقفًا رسميًا مؤيدًا لفصيل أو شخصية معارضة، أما عن التأييد غير المعلن، فهو يعبر عن خيارات قطر ضمن الإقليم، وليس بعيدًا عنه».