كان محقا شاعر فلسطين العملاق محمود درويش عام 1982م وبيروت تقصف بالطيران الإسرائيلي عندما كرر في (مديحه العالي لبيروت)، وبيروت لحظتها تدك أنوثتها ومزاياها الحضارية وامتيازها الثقافي النابع من تموجات (المتوسط) على شواطئها الفضية؛ كرر كلمة (هيروشيما العاشق العربي) و(هيروشيما.. هيروشيما) (أمريكا هي الطاعون. .والطاعون أمريكا).
كان من الممكن الحفاظ على لبنان الفريد والنادر في وسط صحراء متلاطمة من الأهواء العربية الغريبة والشاذة، كان من الممكن جعل لبنان القوي بضعفه مكانا للراحة يغتسل فيه أمراء الصحراء من ملوحة الرمل ووسخ النفط، وأن يحط فيه مغالو البعث والقومية تشنجاتهم اللفظية وخطاباتهم العدمية ليعودوا قليلا إلى مصاف العقلانية والسكينة النفسية، وأن يستنشق دعاة الإرهاب والتكفير قليلا من هواء بيروت العذب ونسمات جبل لبنان الزكية ويتخلوا عن وزرهم الذي على ظهورهم.
كان لبنان ساحة مفتوحة لنقل أحقادنا وتشنجاتنا وفروقنا السياسية والحزبية ومذاهبنا وأيدولوجياتنا لنصنع منه عربيا: (هذا الفرس.. وهذا الميدان).
لم نحترم تلك الخصوصية اللبنانية ولا هذه التوليفة المذهبية المتعايشة بالحد الأدنى ونقلنا كل عوراتنا العربية إلى البلد الجميل. شوهنا عبق الحرية والديمقراطية التي تفوح من شجر الأرز وبساتين التفاح، واستكثرنا على أنفسنا وعلى بلاد العرب (أوطاني) أن يكون هناك بلد عربي واحد صغير بلا صحراء ولا رياح السموم و(الطوز) ولا ثارات (داحس والغبراء) ولا حكاية (الغول) ومأساة (زرقاء اليمامة).
شوهنا لبنان بكلتا يدينا وكان الحق، كل الحق، مع الأستاذ أحمد محمد نعمان عندما اتصل به رئيس لبنان سليمان فرنجية معزيا باغتيال نجله محمد أحمد نعمان في بيروت.
قال فرنجية: أعزيك أستاذ أحمد باغتيال ابنك محمد.
دخلت بعدها لبنان نفق الحرب الأهلية الطويلة.
إنها الصورة المفجعة للبنان وشعبه العظيم فلقد مهد العبث العربي فيه على مدى العقود الأخيرة ليتمدد النفوذ الفارسي إليه مخلا بكل المواثيق والعقود التي تأسس على بنودها لبنان الحديث. وكان العقل العربي مجبرا على الطاعة العمياء لأحابيل الغرب وإسرائيل وأن يشارك بماله وسكوته وتحريك الرأس بالموافقة سببا في كل ذلك من العراق والتآمر عليه بعد خروج صدام من الكويت وإفساح المجال للتمدد الفارسي بعد أن كان العراق صمام أمان البوابة الشرقية للوطن العربي، ثم في الدخول في المؤامرة الكبرى على سوريا وتمزيقها بحجة عدم ديمقراطية النظام فيها لنتيح لإيران بعد أن أتمت سيطرتها على العراق بدعم الأمريكان أن تستكمل هلالها الشيعي الفارسي إلى سوريا ولبنان، ثم نجلس القرفصاء لنندب حظنا في هذا التغول الفارسي في البلاد العربية ونحن من ساهمنا في تغوله وتمدده والعيش على آمال واهية بأن يتولى الغرب؛ أمريكيا أو إسرائيليا أو أوروبيا، قتال إيران وتصفية نفوذها في المنطقة العربية وكأننا نغالط أنفسنا بالعيش في هذا الوهم وسراب البقيعة، لأن هذا الغرب هو الراعي الرسمي لهذا الوضع القائم في المنطقة ولمصلحته أن يستمر.