> صفية مهدي:
تعد اليمن من البلدان القليلة التي مازال العرف القبلي فيها فاعلا ومؤثرا في مختلف المجالات ومن ضمنها قضايا الثأر. وعززت الحرب وغياب الدولة دور القبيلة والعرف. معالجة قضية قتل بالعرف مؤخرا رغم صدور حكم قضائي، مثال على ذلك، في ساحة الإعدام ووسط حشدٍ من رجال القبائل والسكان المحليين ورجال الأمن بمحافظة مأرب شمال شرق اليمن ، تقدم عبدالله القحاطي ليعلن العفو عن المدان قضائيا بقتل ابنه صدام (16 عاما)، استجابة لمناشدة والدة الجاني الذي تم إحضاره إلى ساحة "العفو" بثياب الإعدام، في مشهد أوجد موجة ارتياح واسعة في أوساط اليمنيين، وعكس من زاوية أخرى، صورة متقدمة عن النظام القبلي العرفي المترسخ في البلاد، والذي اكتسب مساحة أوسع على ضوء الحرب وما رافقها من انهيار لمؤسسات الدولة في البلاد.

دخول القبيلة على الخط
وتحركت الجهود القبلية لإقناع الأب بإعلان العفو، بالترافق مع اعتصام والدة الجاني، لدى قبر الضحية تضامنا مع أسرته وطلبا للعفو.
يقول محمد صالح القحاطي، أحد أقارب المجني عليه لـDW عربية "كانت القضية - أي حادثة القتل - مؤلمة لنا جميعا وخاصة والده ووالدته، اللذان تألما كثيرا ولا يزالان"، ولكن "حصلت إحراجات من المرأة التي أتت إلى القبر"، وطُرح على ولي أمره قبول التحكيم أو العفو، ففاجأ الجميع باختيار العفو.

القبيلة والدولة
وعلى الرغم من أن النفوذ السياسي لشيوخ القبائل يثير حفيظة السلطات وقطاع غير قليل من السكان ويتحول أحيانا إلى عقبة في طريق القانون، إلا أن الجزء المتعلق بالمنازعات وقضايا الثأر والقتل ونحوها، بقي الوسيلة الأكثر مرونة في مجتمع مسلح لا تفلح فيه هذه الجهود بصورة دائمة، لكنها تبقى حاضرة بصورة أو بأخرى.
عادات وأعراف وقوانين
يأخذ دور القبيلة في حل المنازعات أعرافا سائدة، من أبرزها "الهَجَر" أو "التحكيم"، وهي عملية تشمل اجتماع وجهاء القبائل والمحكمون إلى منزل المجني عليه في قضية ما، وتجري عملية ذبح "ثيران" ليتم إطعام الحاضرين في الفعالية وتُردد الأحكام التي يقرها "المحكمون" من كبار الوجهاء والكلمات الخطابية التي تحث على التسامح وطي الخلافات، في عملية تمثل شكلا من التضامن ورد الاعتبار النفسي والإلزام المباشر وغير المباشر لمن يتم تحكيمه، بحيث لا يمضي بالثأر.
نظام فاعل تعزز فترة الحرب
يعتبر اليمن كما يرى القانوني المخلافي "من البلدان القليلة في العالم التي مازالت منظومتها القانونية العرفية فاعلة ومؤثرة في كافة مناحي الحياة"، حيث "النظام القانوني العرفي فاعل جداً في الحد من قضايا الثأر ومعالجة قضايا القتل"، ويتضمن قواعد عرفية تتطرق لـ"تفاصيل كثيرة جدا" ونُظمت كذلك بـ"طرق فريدة لها احترامها المتوارث عند السكان"، وتنظم العلاقات بين القبائل والجماعات والأفراد في زمن السلم والحرب.
وفي هذا السياق، جاءت الحرب التي تعيشها البلاد منذ سنوات، لتعزز النظام القبلي على إثر انهيار مؤسسات الدولة، وبرأي المخلافي فإنه عند المقارنة بين القضاء الرسمي والعرفي في فترة الحرب "تبدو مزايا القضاء العرفي أوفر خدمة للمجتمع والذي يعزى إلى عدم ثقة السكان بالنظام القضائي الرسمي"، إذ أن الأخير تغلب فيه إجراءات التطويل وتنفذ إليه هيمنة السلطة، كما يعاني من مشاكل هيكلية ليس أبرزها انعدام الكفاية المالية والمعيشية لأعضاء السلطة القضائية وغياب الكادر الشاب في الهيكل القيادي.

محدودية رغم المرونة
وكما أن النظام القبلي يمثل إطارا اجتماعيا لحل المنازعات يعوض غياب الإطار المؤسسي، ويحول أحيانا دون حضور الأخير في الفضاء القبلي، كما يتسم باعتماده على "مدونة" مرنة غايتها تعزيز التلاحم في المجتمع وترسيخ الاستقرار، إلا أن نفوذه يتمدد عكسيا مع الشريعة الدينية والقانون الوضعي، برأي المحلل السياسي مصطفى ناجي في حديثه لـDW عربية. والذي يتابع أنه رغم الفاعلية والسرعة في البت في القضايا لهذا النظام يظل "محدودا في قدرته في طبيعة القضايا التي تعامل معها وفي القدرة على تحقيق الإنصاف".
قدمت واقعة العفو محل الحديث في مأرب، صورة استثنائية اختلط فيها البعد الإنساني بالعرف القبلي بالقانون الرسمي، في موقف استقبله المجتمع بالإشادات والمدائح، ومع ذلك، وبينما كان الشيخ عبدالله القحاطي، يعلن العفو من منصة الساحة التي قُدِّم إليها الجاني بثياب الإعدام، لم تستطع عيناه إخفاء ملامح الحزن، لكن القصاص في حالته، لم يكن ليحقق أكثر مما حققه بموقف العفو.
"دوتشيفلة"