> «الأيام» القدس العربي:

رغم تقدم قوات الجيش الإسرائيلي نحو مركز مدينة غزة، فإن قوة المواجهات العسكرية بينها وبين منظومة “حماس” الدفاعية في الأيام الأخيرة كانت متدنية أكثر مما توقع الجيش الإسرائيلي. وهذا ينبع كما يبدو من القوة التي استخدمها الجيش الإسرائيلي؛ فحجم القوات المدرعة التي تعمل في غزة كبير جداً، والمساعدة الجوية التي تتلقاها فورية وكثيفة، إلى درجة أن “حماس” فضلت في البداية الانتظار في الأنفاق والامتناع في معظم الحالات عن المواجهات المباشرة.

وسيلة القتال الرئيسية التي تستخدمها “حماس” هي قذائف الـ “آر.بي.جي” التي يطلقها المخربون الذين يخرجون من فوهات الأنفاق.

منظومة “معطف الرياح”، التي تقوم بحماية الآليات المدرعة، اعترضت مئات الصواريخ والقذائف، التي كان بعضها مزوداً برأس متفجر مطور، ومنعت إصابات شديدة. كان هذا بعد الحادثة الاستثنائية التي قتل فيها عشرة جنود من “جفعاتي” بسبب تفجير ناقلة الجنود المدرعة “النمر” في بداية العملية البرية.

تقدر إسرائيل أن “حماس” تدرك نسبة القوة على الأرض، وركزت على محاولة قضم ذيل وحدات الجيش الإسرائيلي، في حين أبقت معظم قوتها في الأنفاق. أمس، كان يبدو أن “حماس” قد بدأت في تغيير طبيعة عملها، وربما شددت معارضتها كلما اقترب الجيش الإسرائيلي من مراكز ثقلها. وقد ثار في الأيام الأخيرة اهتمام كبير بمستشفى الشفاء في غرب مدينة غزة. المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي، العميد دانييل هاجري، ذكر في الأسابيع الأخيرة استخدام “حماس” للمستشفيات. المخربون والقيادات والسلاح في منظومة تحت أرضية أسفل المباني. الآلاف من المدنيين وجدوا ملجأ في المستشفى ومحيطه، إضافة إلى المرضى والجرحى الذين يتم استغلالهم كدروع بشرية لرجال “حماس”. الوقود الذي أُعدّ لمولدات الكهرباء في مستشفيات القطاع يساعد منظومة التبريد في أنفاق “حماس”. تخرج من مستشفى الشفاء أنفاق تتشعب إلى كل أجزاء المدينة، وتنضم بعد ذلك أيضاً أجزاء أخرى في القطاع. من غير المستبعد أن عدداً من المخطوفين محجوزون في الأنفاق.

إلى جانب التركيز على المستشفى، تفحص إسرائيل أفكاراً لتخفيف الأزمة الصحية الشديدة في القطاع. الأردن والإمارات وتركيا أرسلوا معدات طبية ويستعدون لإمكانية إقامة مستشفيات ميدانية في جنوب القطاع أو البحر المتوسط أمام شواطئ غزة. ومصر استوعبت مِن قبلُ عدداً صغيراً من الجرحى من القطاع.

تعمل قوات الجيش الإسرائيلي الآن بشكل واسع قرب مستشفى الشفاء، وفي مخيم اللاجئين القريب، مخيم الشاطئ. هذا محيط مأهول ومكتظ، يتكون جزء منه من بنايات متعددة الطبقات، الأمر الذي يصعب تقدم القوة المهاجمة. وحتى لو لم يكن يحيى السنوار وزمرته في المنطقة، فالسيطرة على منطقة مستشفى الشفاء ستعتبر نجاحاً لإسرائيل. ولكن ثمة شركاً مزدوجاً: أولاً، هذا مقرون بمخاطرة لقوات الجيش الإسرائيلي، قد تؤدي إلى تعقيد دولي إذا تم قصف المستشفى نفسه. ثانياً، حتى النجاح هناك لن يمحو انطباع الفشل من بداية الحرب.

تقدم القوات يتم على تكتكة الساعة الدولية المُلحة؛ فقد قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، أمس، إنه طلب من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، إعطاء هدنة إنسانية لثلاثة أيام في القطاع لإطلاق سراح عدد من المخطوفين. وقال نتنياهو، أمس، إنه لن يكون هناك أي وقف لإطلاق النار بدون إطلاق سراح المخطوفين. مصادر مصرية وقطرية قالت أمس إن على الأجندة صفقة جديدة بوساطة قطر لإطلاق سراح 15 مخطوفاً من أسر “حماس” مقابل وقف النار لبضعة أيام.

ما زالت إسرائيل متشككة. قبل أسبوعين، عشية بداية العملية البرية، انتظروا بشرى من قطر حول صفقة أكبر لإطلاق سراح المخطوفين. وعندما تبين أن قيادة “حماس” غير جدية ولا تريد إلا كسب الوقت، تخلت إسرائيل عن الاتصالات وأدخلت القوات إلى القطاع.

صحيفة “نيويورك تايمز” نشرت أمس مقالاً طويلاً وممتعاً عن الطريقة التي ترى فيها “حماس” هذه الحرب. جهات رفيعة في “حماس” قالت للصحيفة إن الدمار الشديد وغير المسبوق في القطاع لا ترى فيه “حماس” أي نتيجة لتقدير خاطئ من ناحيتها. بل تراه ثمناً ضرورياً للإنجاز الكبير، وهو “ضعضعة” الوضع الإقليمي الراهن وبداية فصل جديد في النضال ضد إسرائيل. خليل الحية، أحد رؤساء “حماس” الموجود في قطر، تفاخر أمام مراسل الصحيفة وقال: “نجحنا في إعادة القضية الفلسطينية إلى الطاولة. والآن، لا أحد في المنطقة يشعر بالهدوء”. عضو آخر من المنظمة الإرهابية قال إنه يأمل بأن وضع الحرب على طول حدود إسرائيل يصبح أمراً دائماً، وأن تنضم إليه الدول العربية.

“حماس” وبحق حققت انتصاراً فظيعاً. ولكن يصعب القول في هذه المرحلة إن الأمر يتعلق بانتصار إستراتيجي. السنوار أنزل على الفلسطينيين في القطاع كارثة غير مسبوقة منذ العام 1948. وإذا كان يأمل أن الإنجاز العسكري سيورط إيران و”حزب الله” في الحرب، فإنه لم يحقق حتى الآن سوى إنجاز محدود. تستخدم إيران المليشيات، ويطلق “حزب الله” النار على الجيش الإسرائيلي على الحدود مع لبنان، ولكنهما امتنعا حتى الآن عن تحويل المواجهة إلى حرب إقليمية.

بشكل استثنائي، وصل أمس “كابينت الحرب” لزيارة إلى قيادة المنطقة الوسطى في القدس، المسؤولة عن الضفة الغربية. حتى الآن، زار أعضاء الكابينت قيادة المنطقة الجنوبية مرة واحدة، وتم عقد الجلسات في مقر وزارة الدفاع في تل أبيب. وحتى الآن، لم يكن لديهم وقت للقيام بجولة في الجبهة الثانية من حيث الأهمية، وهي قيادة المنطقة الشمالية. ولكن نتنياهو صمم على عقد الجلسة في قيادة المنطقة الوسطى.

سبب ذلك، ليس للمرة الأولى أثناء الحرب، سبب سياسي في جوهره. وحدد نتنياهو في هذه الجلسة أيضاً موعداً لعقد اجتماع مع رؤساء المستوطنين. ومن جهة أخرى، رؤساء البلدات والمجالس المحلية في الغلاف، الذين تعرضت مستوطناتهم لأضرار قاتلة في الهجوم الإرهابي في 7 تشرين الأول، لم يحظوا بوقت ممتع مع رئيس الوزراء منذ اندلاع الحرب. ولكن حتى في الحرب هناك أشخاص متساوون، وهناك متساوون أكثر، فأولويات نتنياهو واضحة للجميع. أمس إزاء الانتقاد، وعد بأن يتفرغ لسكان الغلاف في القريب.

نتنياهو خاضع لضغوط شديدة من الجناح اليميني المتطرف في الحكومة برئاسة الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير؛ الأول يضع عقوبات أمام تحويل أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية. عمال الضفة الغربية لا يدخلون إلى المستوطنات ولا داخل الخط الأخضر بسبب الخوف من تنفيذهم عمليات إرهابية على خلفية الحرب. والآن تمت إضافة طلب للمستوطنين والوزراء، وهو منع الفلسطينيين من قطف أشجار الزيتون القريبة من المستوطنات. يحذر جهاز الأمن من ازدياد التوتر في الضفة وأن أي إدارة غير حذرة للحكومة قد تؤدي إلى فتح جبهة أخرى أكثر اشتعالاً.

يبدو أن زيارة “كابينت الحرب” استهدفت تهدئة أحزاب اليمين المتطرف قليلاً، رغم أن أعضاءها هم أعضاء فقط في الكابينت العادي، الذي يمتنع نتنياهو عن عقده منذ أسبوع. في موضوع الضفة، يتفق نتنياهو مع مواقف الجنرالات الثلاثة المتقاعدين في “كابينت الحرب”، الوزير يوآف غالانت وبني غانتس وغادي آيزنكوت. يرى أنه يجب إبقاؤها ساحة ثانوية وعدم إغضاب الإدارة الأمريكية. أدان نتنياهو أمس “الثلة الصغيرة جداً” من المستوطنين “الذين يأخذون القانون في أيديهم”.

كان يجب على الحكومة فعل أكثر من ذلك، وكذلك الجيش الإسرائيلي. بشكل خاص، في الأسبوع الأول بعد المذبحة، كان في الضفة الغربية هياج للجيش الإسرائيلي، بالأساس للمستوطنين، الذي في جزء منه مصدره خوف حقيقي من الفلسطينيين. ولكن رافقته أيضاً رغبة في استغلال هذه الفرصة من خلال وضع اليد على الأراضي وفرض الرعب على سكان القرى. الجيش الإسرائيلي لا يظهر حزماً كافياً في هذا الشأن رغم الأخطار الواضحة.

في استمرارية مباشرة لذلك، يظهر الجيش تسامحاً تجاه السلوك السياسي منفلت العقال الذي ينتهجه اليمين حول القتال في غزة. المثال الأخير على ذلك هو الفيلم الذي ظهر فيه جندي احتياط وهو يغرس شجرة على أنقاض مستوطنة نتساريم، بدعوة منه لتحرير “كل أسرى صهيون، ومن بينهم المخرب اليهودي عميرام بن أوليئيل، الذي قتل عائلة دوابشة. المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي اكتفى برد خفيف، إذ رأى أن الصورة “لا تتلاءم” مع قيم الجيش.

هذه حادثة تضاف إليها تصريحات لرجال الاحتياط حول نية استغلال الحرب لإعادة الاستيطان في “غوش قطيف”. انطلقت إسرائيل إلى الحرب في غزة، مع تضامن مثير من قبل جنود في الخدمة النظامية والاحتياط، مع شعور عميق بأنها حرب عادلة. يمكن الافتراض أن أغلبية ساحقة من الإسرائيليين لم تدعم الأبناء والبنات عند الخروج إلى المعركة بسبب الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بمعركة لتحرير غوش قطيف. وحتى عندما فرضت علينا حرب قاسية، فإن هيئة الأركان يجب أن تحافظ على الروح الرسمية، وإلا فستكون أخطاء سندفع ثمناً باهظاً عنها لاحقاً.
عاموس هرئيل
“هآرتس”