​إيران والسعودية وإسرائيل.. مستجدات حرّكت الجغرافيا السياسية في المنطقة

> أحمد الدرزي:

>
تحوّلت ليلة الرد العسكري الإيراني في الثالث عشر من هذا الشهر إلى مفصل جديد في رسم مسارات خرائط الجغرافيا السياسية في منطقة غرب آسيا وانتقال تداعياتها إلى المستوى الدولي، بعد أن تابع العالم المترقب حيثيات الرد على مدى ست ساعات متواصلة، وامتلاء الساحة الممتدة من إيران إلى شرق المتوسط بأنوار المسيرات والصواريخ الإيرانية مقابل نيران الدفاع الجوي لقوى النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من محاولات تحويل الرد الذي تم بحرفية عالية وكثافة نارية كبيرة لإغراق المنظومات الأكثر تطوراً في العالم، إلى صورة نصر يمنح النظام الغربي فرصة لعدم التصعيد العسكري برد للكيان الصهيوني على الرد الإيراني، فإن التقارير التي تتابعت في الأيام التالية أكدت أن الهدف السياسي المتعدد الأبعاد لرسالة الرد الاستراتيجي قد حقق أهدافه، ووضع منطقة غرب آسيا في حالة من الغموض السياسي لمجمل مسارات المنطقة ومستقبلها في تحديد الأدوار الإقليمية والدولية فيها تبعًا لنتائج الرد الممنهج.

كان لتسريب صحيفة "معاريف" الإسرائيلية أن ما تم إسقاطه من مئات الصواريخ والمسيرات التي أطلقت من إيران يشكل نسبة 84 % من مجملها، أول إسقاط لسرديات الآلة الإعلامية الغربية والاتجاه نحو إثبات فشل التقنيات الغربية في إمكانية حماية الكيان، والدفع بقلق النظام الغربي إلى أعلى المستويات من احتمال انفجار الحرب في المنطقة، والذي ترتب عنه الميل إلى احتواء الرد ومنع الكيان من القيام بعمل عسكري جديد، على الرغم من المحاولات الإعلامية اعتبار الهجوم بالمسيرات الصغيرة على موقع عسكري في أصفهان على أيدي عملاء في الداخل، ردًا إسرائيليًا من خارج الحدود وعبر طيران حربي إسرائيلي، وهو ما فضحه بن غفير باعتباره ردًا ضعيفًا.

أصبح من الواضح أن للرد تداعيات على مسارات الصراع المحتدم في المنطقة، فطبيعة الاصطفافات التي تعاطت بشكل واضح مع الهجوم الإيراني الواسع، أكدت حالة استقطاب شديدة عالية المستوى، فهناك محور المقاومة الذي تناغم مع بعضه البعض يوم الرد والأيام التالية له، باعتباره يخوض حرباً مصيرية بما يشكله من تهديدات متصاعدة لتمدد إنجازاته المتراكمة خلال العقود الأربعة الماضية، وخاصةً بعد حرب الإبادة الغربية لغزة وصمود مقاومتها لأكثر من ستة أشهر، وهو تمدد على حساب السيطرة الغربية المديدة على المنطقة وعلى حساب بقاء استمرار الكيان الصهيوني خلال السنوات القادمة، وهو يقود معاركه بالمستوى الأقل كلفة والأكثر إنجازًا في واقع دولي ما زالت تهيمن عليه الولايات المتحدة، وهو حريص على أن لا تندلع الحرب الكبرى ما دام التراجع الغربي مستمرًا.

ويكفي أن نقارن بين كلفة الهجوم الإيراني الذي لم يتجاوز 35 مليون دولار مقابل إنفاق 2.4 مليار دولار كلفة النظام الغربي في محاولته لإفشال الهجوم وفقًا للمصادر الغربية، وهي مقارنة تنطبق على النتائج الاستراتيجية للمواجهة.
وكشف الرد الإيراني عن أبعاد ارتقاء التحالفات الدولية بين إيران وكل من روسيا والصين، فتبعًا لسياسة الصمت الصينية الحذرة إعلاميًا، فإن ما تم الكشف عنه من استخدام إيران لنظام التوجيه الصيني "بايدو" للصواريخ والمسيرات الإيرانية بديلا من نظام التوجيه الأميركي GPS، وعدم تعطيله يدلل على نوعية التعاون والتحالف بين البلدين، كما أن الموقف الروسي الأكثر وضوحًا بدعمه لإيران ومنع الاعتداء عليها، بالإضافة إلى إعلانها عن قرب تسليم طائرات SU35 لإيران، وموقفها مع الصين في مجلس الأمن دعمًا لفلسطين ومقاومتها وفق المنظور السياسي لكلا البلدين يؤكد مستوى متقدمًا للتحالف بين الدول الثلاث.

وفي الطرف المقابل لمحور المقاومة، بات الاصطفاف للنظام الغربي ومعه معظم الدول العربية أكثر قلقًا، إن بالمشاركة بشكل مباشر بالتصدي كالأردن، أو بالصمت الرسمي القلق، ومحاولة الدفع بالطرفين وفق التعبير الرسمي لمنع التصعيد، لكن الإعلام الرسمي يعطي صورة واضحة عن توجهات هذه الدول ويفضح سياساتها، بالإضافة إلى تركيا التي صمتت في اليومين التاليين للرد مع إعلام تركي مشكك في جوهر العملية، وهو إعلام مقرب إلى حزب "العدالة والتنمية"، إلى أن استيقظ من جديد مستبقًا الإعلان عن زيارة إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى أنقرة، وما يهيأ لتركيا من دور تضطلع به في ظل استعصاء إيجاد حالة نصر للكيان، وفقاً للأهداف التي وضعها لنفسه في حرب الإبادة.

تقف السعودية على أرض متحركة تحت أقدامها، على الرغم من مضي أكثر من عام على المصالحة مع إيران، وهي مصالحة لم تُترجم إلى نتائج مرجوة بين الطرفين، وهي من الناحية العملية تجد نفسها بين خيارين صعبين جدًا، فإما أن تسارع إلى التطبيع مع الكيان بانتظار مجيء دونالد ترامب، وعدم منح جائزة هذا التطبيع للإدارة الديمقراطية المتشددة تجاه القيادة السياسية الحالية للسعودية، وهي تشعر بمخاطر عالية المستوى أكثر من كل مراحل تاريخها السياسي منذ تأسست الدولة السعودية، فمن الجنوب أثبت أنصار الله أنهم رقم صعب لم يعد بالإمكان القضاء عليهم أو تجاوزهم حتى بعد التدخل الأميركي- البريطاني المباشر، وأصبحت المعادلة الواضحة "كلما تصاعدت محاولات اجتثاثهم ازدادوا قوةً وتمددًا"، وهم من الناحية الفعلية أصبحوا مسيطرين على باب المندب والبحر الأحمر وبحر العرب.

وهناك إلى الشرق حيث تسيطر إيران على مضيق هرمز، وما رسالة احتجاز السفينة الإسرائيلية “أم أس سي أرييس” بالقرب من مضيق هرمز قبل يوم من الهجوم الإيراني وعجز البحرية الأميركية عن إفشال العملية سوى تأكيد لفعالية السيطرة الإيرانية، وهي ما زالت تعدّ إيران، رغم المصالحة معها برعاية صينية بمنزلة تهديد لنظامها السياسي، بالرغم من كل محاولات السياسة الإيرانية لإثبات عكس ذلك، واستعدادها لطيّ الصفحات السوداء بتاريخ العلاقات بين الطرفين بعد عام 1979.

وإلى الشمال منها هناك العراق المنقسم على نفسه بين الارتباط بالنظام الغربي عبر إداراته السياسية المتعاقبة، وبين قوى الحشد الشعبي التي اختطت لنفسها الانتماء إلى محور المقاومة والعمل على طرد الاحتلال الأميركي المسؤول الأول عن استمرار محنة العراق، وأصبح وجود قوى الحشد الشعبي أكثر تجذرًا في بنية المجتمع العراقي مهدداً لبقاء الوجود الأميركي في العراق وسوريا بعد عملية "طوفان الأقصى"، وهو ما يُعدّ تهديدًا للدور السعودي شمالاً، والأمر لا يتوقف على العراق شمالاً فهناك الأردن أيضاً القابل للانفجار.

الخيار الثاني للإدارة السياسية للسعودية يرتكز إلى التاريخ الأقرب لها بإيقاف عملية التطبيع، فأمامها حدثان يمكن أن تقرأهما بعقل بارد لتبني عليهما، الأول هو استهداف منشأة أقبيق النفطية العائدة لشركة أرامكو في المنطقة الشرقية من جانب أنصار الله في اليمن عام 2019، والتي أدت إلى هبوط الإنتاج النفطي إلى 40 % فقط، وعدم دفاع الولايات المتحدة عنها رغم العلاقات المميزة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وبين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والحدث الثاني هو رد إيران المباشر على استهداف قنصليتها في دمشق ومشاركة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن ودول أُخرى لم يُعلن عنها بعد في عملية التصدي، وهي جميعها لم تستطع إفشال الرد بعد العديد من الصواريخ والطائرات المسيرة لأكثف نظام دفاع جوي متعدد الطبقات والأكثر تطورًا في العالم، وعملت الولايات المتحدة ضمن إطار الدول السبع لمنع رد إسرائيلي بعنوان حفظ ماء الوجه، وهذا الحدث يؤكد السياسات المزدوجة للولايات المتحدة تجاه من تعدّهم حلفاءها، فـ”إسرائيل” هي التي يجب الدفاع عنها أما البقية فإن الدفاع عنهم مرتبط فقط بالمصالح الأميركية، والأمر الأهم رغم اندفاع الولايات المتحدة لحماية هذا الكيان، فإنها لم تستطع أن تحميه لا في الرد الإيراني ولا في الحرب المستمرة في غزة منذ ستة أشهر.

قد يكون خيار السعودية بإيقاف التطبيع مع "إسرائيل" هو الأسلم على المستوى الاستراتيجي لها، فلا الضمانات الأميركية الأمنية ضمن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية يمكن أن تحقق الأمن لها، ولا الحصول على المفاعل النووي بعنوان الأغراض السلمية يمكن أن يُنجز بوجود كيان لا يسمح لجيرانه بأن يمتلكوا مقاليد القوة حتى لو كانوا صنيعة له، وهذا الخيار له ثماره في محيطها الأقرب وفي داخلها حيث يقف أكثر من 91 % من سكانها مع فلسطين وفقاً لإحصائيات غربية غداة السابع من أكتوبر، وخاصةً أن محور المقاومة المتحالف مع روسيا والصين يراكم من إنجازاته.

يبقى السؤال ماذا سيختار السعوديون، وهو سؤال رهن الإجابة خلال الأشهر القادمة، فأي خيار سيختارون؟
"الميادين"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى