> توماس جونو:
منحت الحرب في غزة الفرصة للحوثيين لتعزيز سلطتهم في مناطق سيطرتهم وتوسيع نفوذهم الإقليمي. ولتحقيق أهدافهم، شن هؤلاء عشرات الهجمات ضد الملاحة في البحر الأحمر. وقد سمح لهم ذلك بفرض جماعة الحوثي كقوة ناشئة على المستوى الإقليمي، وأثبتت قدرتها واستعدادها لعرقلة حركة الملاحة في أحد الممرات الرئيسية للتجارة العالمية.
ولفهم مصالح وتصورات إيران فيما يتعلق بأزمة البحر الأحمر، من المفيد أن ندرس مقاربتها في التعامل مع اليمن قبل عملية "حماس" في السابع من أكتوبر. بالنسبة لقادة الجمهورية الإسلامية، يشكل صعود قوة الحوثيين بكل تأكيد تطورًا إيجابيًا. صحيح أن الحركة اليمنية تواجه عقبات على المستوى الوطني بسبب الوضع الاقتصادي الصعب والسخط المتزايد في المناطق الخاضعة لسيطرتها، ولكن بعد سنوات من الحرب الأهلية والتدخل الذي قادته السعودية لمدة تسع سنوات، تظهر الحركة كسلطة حاكمة فعلية في شمال البلاد، من دون منافس سياسي أو عسكري، في حين تبقى الحكومة المعترف بها دوليًا ضعيفة ومنقسمة.
لا يُعرف على وجه الدقة حجم الدعم المالي الذي تقدمه إيران للحركة اليمنية، لكنه لا يتجاوز على الأرجح بضع مئات من ملايين الدولارات سنويا، منذ 2015. ومن خلال تزويد الحوثيين بأسلحة خفيفة وذخائر وقطع غيار للأسلحة الأكثر تطورا، مثل الصواريخ والطائرات من دون طيار، بالإضافة إلى التدريب والاستخبارات اللازمة لاستخدامها، فقد حقق استثمار إيران المحدود لها مكاسب كبيرة جدًا. فقد أصبح الحوثيون بفضل هذا الدعم الجزئي، القوة المهيمنة في جزء كبير من اليمن ولاعبًا رئيسيًا في الشبكة الإقليمية للجماعات المسلحة غير الحكومية بقيادة طهران.
انخراط الحوثيين في تصعيد عسكري في البحر الأحمر يسمح لإيران بتحقيق أكبر مردود على استثمارها في اليمن، من دون أن يغير من حساباتها الشاملة. ومن وجهة نظرها، فإن الخطوة المقبلة هي إضفاء الشرعية على سلطة الحوثيين. ولهذا السبب تدعم طهران العملية السياسية بين الحوثيين والسعودية، التي ترغب الجمهورية الإسلامية في تشجيع انسحابها. وعلى الرغم من أن هذه العملية تُركت جانبا في الوقت الراهن، فلا شك أن الرياض ما تزال ترغب في الخروج من حربها المكلفة في اليمن، وستكون نتيجة هذا الانسحاب حتمًا تعزيز سلطة الحوثيين، وليس عملية مصالحة وطنية قد تنطوي على تمييع سلطة الحركة التي تسيطر حاليًا على صنعاء. ونظراً لتدخلاتهم الأخيرة، سيكون الحوثيون في وضع يسمح لهم بالحصول على المزيد من التنازلات عندما سيتم أخيرًا استئناف المحادثات.
يصب بروز الحوثيين كلاعب إقليمي قوي أيضا في مصلحة إيران خارج حدود اليمن، من خلال تعزيز قدراتها الردعية وإمكانية فرض تكاليف على منافسيها الأميركيين والإسرائيليين وغيرهم.
على الرغم من هذه التطورات، فإن الأحداث الأخيرة في البحر الأحمر تنطوي على مخاطر بالنسبة لإيران. فالمبدأ المهيمن في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية هو تجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية، نظرًا للتفاوت الكبير في القوة بين البلدين. ويسمح الدعم الذي تقدمه للجماعات المسلحة غير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة في دفع خطر انعدام الأمن إلى ما وراء حدودها. ويعود ذلك إلى إدراك قادة إيران أنه في حالة حدوث تصعيد كبير، فإن للولايات المتحدة في نهاية المطاف القدرة على إلحاق ضرر أكبر. وهذا هو السبب - جزئياً - الذي جعل طهران تشجع "حزب الله" على عدم تصعيد صراعه مع إسرائيل، علمًا بأن هذا الضبط للنفس ينسجم مع المصالح الداخلية الحالية للحزب اللبناني.
في هذا السياق، يشكّل الغلو في تصرفات الحوثيين مخاطر على إيران. ويعتقد الحوثيون أنه لا يمكن لأي جهة فاعلة في اليمن أن تتحداهم. إنهم لا يتحمّلون الضربات الجوية المحدودة من الولايات المتحدة وبريطانيا فحسب، بل يستفيدون سياسيا أيضا من هذه الهجمات. ومن هذا المنطلق، فإن قدرتهم على تحمّل المخاطر أعلى من تلك التي لدى إيران والتي تسعى أكثر إلى تجنب التصعيد.
يتمثل التوازن المثالي بالنسبة للجمهورية الإسلامية في منطقة رمادية يَستفز فيها الحوثيون، كغيرهم من الجماعات المسلحة الموالية لإيران، السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة، ويساهمون في توريطهم في صراعات مكلفة قدر الإمكان. وفي الوقت نفسه، يسجّل "محور المقاومة" نقاطًا على المستوى الخطابي، مما يعزز شعبيته. وتتيح مثل هذه الآلية لإيران ممارسة ضغوط مباشرة وغير مباشرة على خصومها وتحميلهم تكاليف باهظة مع تجنب تصعيد قد يكون مكلفًا بالنسبة لها. ولعل هذا هو السبب على الأرجح الذي جعل إيران تعمل على كبح جماح بعض الميليشيات التي تدعمها في العراق، كما أشارت مقالات أخيرة. كانت هذه الميليشيات قد ذهبت بعيدًا جدًا، مما زاد من خطر حدوث تصعيد جديد.
تعيد هذه المعايرة الدقيقة إحياء النقاش القديم حول مستوى النفوذ العملياتي والاستراتيجي الذي تمارسه إيران على الحوثيين. يرى بعض المحللين أن الحوثيين وكلاء ويؤكدون أن طهران تمارس نفوذا كبيرا، من دون أن تسيطر عليهم بالضرورة بشكل مباشر. غير أن الأحداث الأخيرة تؤيد وجهة نظر أكثر دقة. لقد أصبح الحوثيون برغم تلقيهم قدرًا كبيرًا من المساعدات الإيرانية طرفًا فاعلًا قويًا ومستقلًا بشكل متزايد، ويعمل الطرفان معًا بشكل وثيق في نفس المسعى.
* أستاذ مشارك في جامعة أوتاوا (كندا)، وباحث غير مقيم في "مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية".
المصدر/ "الغد" الأردنية.