> تقرير - خاص:

تابع المهتمون بالشأن الاقتصادي وعلى وجه الخصوص في الجانب النقدي والمصرفي منه باهتمام بالغ، قرار محافظ البنك المركزي بشأن نقل مراكز عمليات البنوك العاملة إلى عدن.

وتجلى ذلك الاهتمام بانتشار الكتابات في وسائل التواصل الاجتماعي والصحف التي تناولت في جلها مسالة تحديد الموقف من القرار وتوقيته.

بقراءة متفحصة للكتابات في هذا الأمر نجد أنها في غالبها انطلقت من نظرتين (ضيقتين) في تحديد الموقف من القرار. إحداها ذات نظرة تشاؤمية محبطة تدَّعي باستحالة تنفيذ القرار، والصنف الآخر من الكتابات ينطلق من نظرة تفاؤلية مفرطة تصر على ضرورة تنفيذ القرار دون الخوض في شرح آليات التنفيذ الميسرة، ولا المدة المتاحة لتنفيذه.

بيد أن ما غاب في الكتابات عند تحديد الموقف من القرار وصوابيته، هو الإشارة إلى الأسانيد والحجج التي استند إليها القرار قانونيًا ووظيفيًا، وكذا الدواعي الملحة التي اقتضت اتخاذه.

إن القرار الذي اتخذه المحافظ، وإن كان قد جاء متأخرًا، إلاَّ أن ما يشفع له، هو أنه إجراء كان لابد منه لجهة استعادة البنك المركزي بعدن لزمام المبادرة في تأدية وظائفه كسلطة نقدية في الجمهورية، بعد أن كاد يفقدها نظرًا لتمادي وإمعان سلطة الأمر الواقع في صنعاء في اتخاذ عدد من القرارات الخطيرة التي أدت إلى انقسام في النظام المالي والنقدي في البلاد.

وللتذكير والتوثيق ندون هنا أبرز القرارات التي اتخذتها سلطة الأمر الواقع في صنعاء خلال الفترة الماضية، وتحديدًا منذ بدء استخدامها الملف الاقتصادي كأداة ضغط في الصراع الدائر، وهي:

أ - في أواخر عام 2019م اتخذت سلطة الأمر الواقع في صنعاء قرارها القاضي بمنع تداول الأوراق النقدية المطبوعة والمصدرة من قبل البنك المركزي اليمني بعدن، الأمر الذي شكل انعطافة خطيرة في إقحام الاقتصاد ومؤسساته كأدوات في الصراع الدائر، وعلامة فارقة في طبيعته، وتدشينًا لبدء مرحلة انقسام النظام المالي والنقدي اليمني الواحد. لاسيَّما بعد أن تسبب بظهور قيمتين نقديتين (داخلية) للعملة الوطنية الواحدة، والجميع يدرك ما تسبب به ذلك الإجراء من أضرار جسيمة على الاقتصاد وعلى المتعاملين بالنقد المحلي.

ب - إصرار فرع المركزي بصنعاء على اتباع نظام الصرف المعوم المدار، خلافًا لقرار محافظ البنك المركزي اليمني بعدن الذي نص على العمل بنظام الحر (التعويم الكامل)، أي ترك سعر صرف الريال تجاه العملات الأجنبية المتداولة في سوق الصرف يتحدد وفق آلية العرض والطلب، الأمر الذي تسبب بظهور قيمتين نقديتين (خارجية) للريال، أي سعري صرف للعملة الوطنية الواحدة (الريال) في الاقتصاد الواحد.

والكل يدرك مدى الخسائر والأضرار التي نجمت جراء هذا الإجراء وشملت الأفراد، والمنشآت والاقتصاد الكلي، وكان الأكثر تضررًا من الأفراد هم فئة العمال والموظفون الذين يعملون في المناطق غير الواقعة تحت سلطة الأمر الواقع حيث تكبدوا خسائر كبيرة في دخلهم بعد أن أضحت كلفة تحويل دخلهم (فارق سعر صرف الريال ما بين مناطق عملهم ومناطق سكن عائلاتهم) تلتهم أكثر من ثلاثة أرباع دخلهم المحدود أصلًا.

ج - الإجراء الثالث الخطير الذي أضر بالقطاع المصرفي وبجمهور المودعين والمقترضين، هو إصدار ما عُرف بقانون تحريم الفوائد على الودائع والقروض، القانون الذي شدُ عن كل قواعَد العمل المصرفي في العالم، وللأسف لم تضع سلطة الأمر الواقع بديلًا عن ذلك يرضي أطراف العملية المصرفية (المودعين- البنوك - المقترضين).

وكان بمثابة كارثة على المدّخرين من أفراد الطبقة الوسطى، الذين كانوا يعتمدون على عوائد مدخراتهم من الودائع في البنوك لتغطية جزء من دخلهم الحقيقي الذي فقدوه بفعل التضخم.

من جهة أخرى، حاول البنك المركزي- عدن، أن ينأى بنفسه عن استخدام الاقتصاد كورقة ضغط لتحقيق مكاسب الصراع الدائر، تجنبًا منه لزيارة حدة الانقسام في النظام المالي والنقدي، ولم يُقَدم على اتخاذ أي إجراءات مضادة أو تصعيدية بالرغم من عدم التزام فروع البنوك التي مراكز عملياتها في صنعاء بما جاء في بيانه الموجه لها حول ضرورة استمرار تعاملهم مع فوائد جمهور المودعين حسب القوانين المصرفية، واللوائح والتعاميم والمنشورات الصادرة عن البنك المركزي عدن.

هـ - زادت سلطة الأمر الواقع في صنعاء من إمعانها في اتخاذ الإجراءات التصعيدية اللا قانونية التي أضرت بالنشاط المصرفي والنقدي، حين قامت بسك عملة معدنية من فئة المائة ريال، ضاربة عرض الحائط بقانون رقم (20) الصادر بعام 2000م، بشأن البنك المركزي، ومتجاهلة دعوات كل الخيرين التي طالبتها بالكف عن تأزيم الوضع النقدي والمصرفي والالتزام بتحييد الاقتصاد ومؤسساته السيادية عن الاستخدام في الصراع الدائر.

كل تلك الإجراءات التي اتخذتها سلطة الأمر الواقع خلال السنوات 2019 - 2024، والتي لم تضر فقط بالبنوك، وإنما أضرت بالاقتصاد وبالحياة المعيشية، لمنتسبي الطبقة الوسطى والدنيا (أدوات التغيير في المجتمعات الديمقراطية الناشئة).

ناهيك عن كونها قد ساهمت في إشاعة الفوضى المالية وعدم تمكين مركزي عدن من إخضاع الأداء المالي للبنوك التي مراكز عملياتها في صنعاء -حتى عبر التقارير الدورية- للرقابة المكتبية، والاطلاع على مستويات الامتثال لمعايير منظمة الفاتف والميني فاتف، بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وسعيًا لإعادة الأمور الى نصابها، قام البنك المركزي بعدن مؤخرًا باتخاذ قرار كان لابد منه لتعزيز دوره الرقابي المكتبي والميداني عبر قطاعه المختص، والإيفاء بالتزاماته تجاه المجتمع الدولي والإقليمي بتوطين وترسيخ المعايير الدولية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
  • خلفيات قرار محافظ البنك المركزي ومستوجباته
في 18 سبتمبر 2016م اتخذ رئيس الجمهورية قرارًا جمهوريًا قضى بنقل مركز عمليات البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى العاصمة الاقتصادية عدن، وبالضرورة كان الأمر يقتضي -حينها- تبعًا لهذا القرار، نقل مراكز عمليات البنوك العاملة كافة إلى عدن. إلاَّ أن ذلك -للأسف الشديد- لم يتم حينها.

وظلت مسألة النقل تفرض نفسها في كل مرة كضرورة قصوى لتلبية متطلبات الرقابة على البنوك، ومعرفة حركة الأموال منها وإليها محليًا وخارجيًا، وإلزامها بمعايير الامتثال والعناية الواجبة. كما تفرضها مستوجبات الإدارة الرشيدة لعرض النقود في الاقتصاد اليمني، ورفع كفاءة استخدام أدوات السياسة النقدية غير المباشرة بما يمكن البنك المركزي من تحقيق هدفه الأساس في استقرار الأسعار والمحافظة على هذا الاستقرار.

ولا يخفى على أحد أن قرار النقل تدعمه أسانيد وحجج عديدة من المنظور الوظيفي والقانوني للبنوك.

فمن المنظور الوظيفي كما هو متعارف أن البنوك تتميز عن غيرها من المؤسسات المالية الوسيطة بالخصائص الوظيفية الآتية:

• تتعامل البنوك التجارية بالودائع تحت الطلب (الجارية) أكثر من أي مؤسسة مالية وسيطة، وهذه الودائع تتمتع بسيولة كاملة، كونها تندرج ضمن العناصر النقدية كاملة السيولة، وتشكل ما يعرف بـ "عرض النقود بالتعريف الضيق M1" وتعتبر عناصره وسائل دفع مباشر. M1 = العملة المتداولة خارج البنوك + ودائع تحت الطلب.

• إن تلك الميزة تجعل من ودائع البنوك الجارية تقوم بوظيفة وسيط للتبادل. مما يضفي على نشاط البنوك التجارية الطابع النقدي في تعاملاتها أكثر من الطابع المالي.

• البنوك التجارية في سياق قيامها بوظيفتها الائتمانية (تقديم القروض* تقوم بخلق النقود. أي تخلق قوة شرائية إضافية، شأنها شأن الأوراق النقدية القانونية (العملة) تسمى نقود الودائع، وهذه تدخل ضمن احتساب عناصر العرض النقدي بالتعريف الودائع (M2) حسب دليل البنك المركزي اليمني.

كل ذلك يجعل من البنوك التجارية طرفًا مشاركًا -بعد البنك المركزي- في تكوين عرض النقود في الاقتصاد والتأثير على حركة اتجاهاته توسعًا أو انكماشًا.

فيما سبق أستعرض الكاتب الدواعي والمبررات في اتخاذ القرار، من المنظور الوظيفي.

أما من المنظور القانوني فالأسانيد والحجج التي بُني عليها القرار كثيرة، ويمكن تلخيص أهمها بالآتي:

• تلتزم كل البنوك العاملة – أينما كانت مقرات اداراتها المركزية بموافاة البنك المركزي المعترف به دوليًا بكل ما يلزم من معلومات وبيانات وتقارير دورية وميزانيات سنوية وحسابات ختامية، حسب ما ورد نصًا في المادة (27) من الباب الخامس في القانون رقم (38) لسنة 1998م بشأن البنوك وفي بقية القوانين المصرفية النافذة، وهذا الأمر لا يمكن أن تقوم به ادارات فروع البنوك في عدن لأنه من صلاحيات مراكز العمليات للبنوك ذاتها.

وهذا ما جعل البنوك التجارية بصنعاء تحجم عن موافاة البنك المركزي بأي بيانات عن حركة الأموال منها واليها وتحجم عن رفع اية معلومات أو تقارير دورية أو سنوية حول ادائها المالي خلال السنوات الماضية.

ومعروف لدى المهتمين بالنشاط المصرفي والنقدي أن إعداد البيانات للميزانية الموحدة لكافة البنوك العاملة من صلاحية القطاع المختص بالبنك المركزي، حيث يجب على الإدارة المركزية في كل بنك برفع بياناتها من واقع مركز عملياتها إلى البنك المركزي الذي يقوم بدوره عبر قطاعه المختص بتجميع كل البيانات الإفرادية الواردة في ميزانية كل بنك إلى ميزانية مجمعة (موحدة) لكل البنوك بحسب الأصول والخصوم المتعارف عليها في الميزانيات العمومية للبنوك.

وجري بنا هنا التوضيح للناس من المهتمين وغير المهتمين بالاقتصاد النقدي، إن البنك المركزي لا يستطيع أن يجري مسحًا نقديًا شاملًا ودقيقًا لقياس وتحديد عرض النقود ومكوناته، بدون أن تتوفر لديه بيانات الميزانية للبنوك العاملة التي يعدها المختصون في قطاع الرقابة على البنوك بناء على المعلومات المرسلة لهم من كل بنك.

ولا يمكن أن يتم إجراء المسح النقدي إلاّ بدمج الأصول والخصوم وميزانيتي البنك المركزي والبنوك واستخلاص صافي الأصول في الجهاز المصرفي.

ومن المعروف لدى جميع المختصين بأن مؤشر عرض النقود ومكوناتها يعد من أهم المؤشرات النقدية -بل يكاد يكون أهمها على الإطلاق- في وضع السياسة النقدية السليمة والملائمة للنشاط الاقتصادي، بحيث لا ينمو العرض النقدي (كمية النقود) بمعدلات أكبر من معدلات نمو الناتج المحلي الاجمالي للحفاظ على استقرار نقدي مستدام. (ميلتون فريدمان).

ولا تقتصر دواعي ومبررات اتخاذ القرار على ما سبق ذكره، بل أن بقاء البنوك في صنعاء بعيدًا عن وحدة جمع المعلومات يفقد البنك المركزي واللجنة الوطنية عنصرًا مهمًا من عناصر المتابعة والتقييم لمستويات امتثالها وتعيدها بمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وهذا كله يتعارض مع الاتجاهات والجهود الدولية في إحكام الرقابة على النشاط المالي والمصرفي في البلاد.