> "الأيام" ذي ناشيونال نيوز:

أصبح "معرض طهران الدولي للكتاب" الآن ظلاً لما كان عليه في السابق. ولَّت الأيام التي كان يُعتبر فيها الحدث الثقافي الرائد الذي يجذب الملايين من مُحبِّي الكتب من جميع أنحاء البلاد، وإن كان ما يزال بإمكانه حشد جموع من الناس في بعض الأحيان.

سنحت فرصة مثل هذه يوم الجمعة الماضي، عندما وصل وزير الخارجية الإيراني السابق  محمد جواد ظريف إلى المكان لتقديم كتابه الأخير "عُمق الصبر".

اصطفَّ العشرات من الزوار، بما في ذلك شباب وشابات، للحصول على نسخة موقعة من مذكرات ظريف حول الفترة التي قضاها ككبير دبلوماسيي البلاد بين 2013 و2021م، بل إنّ البعض أحضر معه نسخاً من "السيد السفير"، وهو كتاب مذكرات يعود إلى عام 2013م عن الفترة الطويلة التي قضاها ظريف في مكتب تمثيل إيران لدى الأمم المتحدة في نيويورك.

ومنذ نشره في مارس أصبح "عُمق الصبر" من أكثر الكتب مبيعاً على الفور، بعد أن دخل بالفعل في طبعته الرابعة.

إنّ مثل هذه الحماسة تجاه السياسيين شيء نادر للغاية في بلد مثل إيران، حيث تنتشر خيبة الأمل في السياسة الرسمية على نطاق واسع إلى الحد الذي جعل 7 % فقط من سكان العاصمة يصوتون في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية في وقت سابق من هذا الشهر، لكنّ ظريف الدبلوماسي المحترف الذي لم يسبق له أن شغل منصباً منتخباً، والذي قال مراراً إنّه ليس لديه طموحات سياسية، أظهر موهبةً في البقاء موضع اهتمام.
إنجازه المميز في وزارة الخارجية كان رعاية الاتفاق النووي لعام 2015، الذي وقعته إيران مع الأعضاء الـ (5) الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة "بالإضافة إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي"، بعد أشهر من المفاوضات المكثفة. وبموجب الاتفاق - الذي يسمَّى "خطة العمل الشاملة المشتركة" - كان على طهران تقليص برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات.

بشَّر العديد من الإيرانيين بالاتفاق باعتباره مقدمة لفترة جديدة من الانفتاح في عهد الرئيس الإيراني آنذاك حسن روحاني، الذي أعيد انتخابه بعد عامين من توقيع الاتفاق. ومع ذلك لم يدم الاتفاق لفترة أطول. ففي عام 2018 سحب الرئيس دونالد ترامب الولايات المتحدة من "خطة العمل الشاملة المشتركة"، وبعد ذلك انتهى الأمر بتهميش روحاني وظريف من قِبل المرشد الأعلى الإيراني المتشدد آية الله علي خامنئي.
ومع ذلك، وجد ظريف طرقاً للبقاء في عناوين الأخبار منذ ذلك الحين.

في أبريل 2021، قرب نهاية فترة ولايته كوزير للخارجية، سُرِّبت مقابلة صوتية مدتها (3) ساعات سُمع فيها وهو ينتقد العديد من سياسات النظام، بما في ذلك تعزيز علاقات وثيقة مع روسيا والنفوذ الهائل "للحرس الثوري الإسلامي" داخل هيكل السلطة. أصرَّ ظريف على أنّ المقابلة كانت جزءاً من مشروع داخلي للتاريخ الشفهي، وأنّها لم تكن بهدف النشر، لكنّ القائم بإجراء المقابلة ادَّعى لاحقاً أنّ التسريب كان متعمداً.

وبعد وقت قصير من تنحيه، تولى ظريف منصباً في جامعة طهران، وقال إنّه سيبقى بعيداً عن الحياة العامة، ومع ذلك فهو لم يبتعد قط عن الأضواء، ويجري من وقت إلى آخر مقابلات إعلامية.
في مارس، في تسريب صوتي آخر نشره موقع (إيران واير) المناهض للنظام، والذي يتخذ من لندن مقراً له، يمكن سماع ظريف وهو ينتقد "الحرس الثوري الإسلامي" مرة أخرى، وكذلك الفصائل المتشددة والإصلاحية في النظام. وبلهجة مألوفة أكد أنّه طُلب منه مراراً أن يترشح للرئاسة، وأشار ضمناً إلى أنّه سيفوز إذا ترشح، لكنّه أضاف بسرعة أنّه لا يرغب في القيام بذلك.

كتاب ظريف الجديد مليء أيضاً بمثل هذه التفاخرات التي تدَّعي التواضع، بما في ذلك حقيقة معروفة مفادها أنّ وزير الخارجية الأمريكي الراحل هنري كيسنجر وصفه ذات مرة بأنّه "خصم محترم". وهو يصور نفسه على أنّه ضحية لوقوفه إلى جانب زملائه الإيرانيين، على الرغم من محاصرته من جميع الجوانب، من قِبل "الحرس الثوري الإسلامي" والمتشددين، وأيضاً من قِبل وسطيين مثل مستشار الأمن القومي السابق علي شمخاني وروحاني نفسه.

الكتاب مليء بالحكايات التي تصوره في ضوء وطني أيضاً. فهو يتحدث عن اجتماع عُقد عام 2019 مع آن ليندي، وزيرة التجارة الخارجية السويدية آنذاك، والذي احتج فيه على رفض ستوكهولم المزعوم تصدير بعض الأدوية إلى إيران بسبب العقوبات الأمريكية.

وفقاً لظريف، عندما قالت له ليندي: إنّ "الأمريكيين أصدقاؤنا"، قاطعها قائلاً: "إنّ أصدقاءكم أعداء لأطفالنا. ليس لديّ ما أقوله لك"، قبل أن يغادر الغرفة.

وربما يتعلق الفصل الأكثر أهمية في الكتاب بآراء ظريف بشأن الطائرة الأوكرانية التي أسقطها "الحرس الثوري الإسلامي" فوق طهران في يناير 2020، ممّا أسفر عن مقتل جميع الأشخاص الذين كانوا على متنها وعددهم (176) شخصاً. اعترفت السلطات الإيرانية بمسؤولية "الحرس الثوري الإسلامي" بعد بضعة أيام، ولكن فقط بعد أن زعمت شبكة التلفزيون الحكومية مراراً أنّ الطائرة تحطمت بسبب عطل فني. يقدم ظريف رواية تنتقل ساعة بساعة، ويكرر ادعاءه الموثق جيداً بأنّه وروحاني لم يعرفا الحقيقة، تماماً مثل بقية إيران.

ومع معرفته جيداً باستياء العديد من الإيرانيين من علاقات حكومتهم مع موسكو، يعيد أيضاً صياغة العديد من انتقاداته المعروفة لهذه العلاقة في كتابه.

ليس هناك شك في أنّ ظريف نجح في خلق سردية واضحة عن نفسه. وبعد أن أمضى عدة أعوام في ممارسة الدبلوماسية العامة في الولايات المتحدة، حيث قضى معظم حياته، أصبح ظريف سيداً لهذه الحرفة، ويبدو أنّه يستمر في صقلها بعد تقاعده المفترض.

في روايته عن نفسه، يظهر ظريف كإيراني وطني ضحى بالكثير من أجل بلاده. كما أنّه واضح أيضاً بشأن علاقته الخاصة مع خامنئي التي بدأت، كما يروي في الكتاب، في عام 1987 عندما كان الأخير يزور الأمم المتحدة كرئيس في نيويورك، حيث عمل ظريف مترجماً فورياً له.

إنّها علاقة خدمت ظريف بشكل جيد، فقد استخدمه خامنئي كمبعوث موثوق به إلى الغرب، وعلق العديد من الإيرانيين آمالهم عليه باعتباره الرجل الذي يمكنه إعادة بناء علاقات طهران مع الولايات المتحدة وأوروبا، وبالتالي المساعدة في إخراج بلادهم من العزلة الدولية.

في أواخر حياته اتبع خامنئي سياسة مناهضة للغرب بشدة، وبالتالي لم يعد بحاجة إلى شخصية مثل ظريف. ومع ذلك، هل يستطيع الدبلوماسي الذي يبتسم دائماً أن يجد مستقبلاً سياسياً؟ إنّ حضور ظريف المستمر في أعين الجمهور يبقيه موضع اهتمام، وحقيقة أنّه لم يشارك قط في السياسة الحزبية تجعله شخصاً مرغوباً به في نظر البعض.

في عام 2021 أجرى الفصيل الإصلاحي في النظام استطلاعاً داخلياً أوضح أنّ ظريف هو مرشحهم المفضل للرئاسة، ومع ذلك رفض ظريف التسجيل للترشح، لكن هل يعني هذا أنّه ببساطة غير مهتم بالسلطة، أم أنّه ببساطة ينتظر الفرصة الملائمة؟ على الرغم من نفيه المتكرر، فإنّ إدارة ظريف الحذرة لصورته العامة تشير إلى أنّ الإغراء السياسي ليس غريباً عليه.
ربما، ببساطة، يختبر أعماق صبره.