> د. محمد الميتمي:

​تجري محاكمة الكثير من “المواطنين المتهمين” في زمن الحرب تحت مظلة المحاكم المتخصصة. توجه إليهم التهم وتصدر بحقهم الأحكام بالسجن أو الإعدام دون أدلة قاطعة ودون مراعاة للشروط القانونية والدستورية، ودون أن تتوفر لهم مقومات الحد الأدنى من حقوق الدفاع عن أنفسهم، وربما يكونون قد تعرضوا لأبشع أنواع الأذى النفسي والجسدي قبل دخول قاعة المحكمة.

يُحكى أنه دخل ذات يوم جنرال بريطاني على ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا والطائرات الألمانية تقصف لندن خلال الحرب العالمية ثانية، ووجهه مخضب بالرعب كاشفا عن فزعه وألمه من أن بريطانيا العظمي قد هُزمت وربما قد تختفي من على الخارطة. فسأله تشرشل “هل مؤسساتنا التعليمية والقضائية ما زالت صامدة”، أجابه الجنرال بنعم. عندئذ وقف تشرشل واثقا قائلا له “ما دام عقل الأمة وضميرها بخير، فبريطانيا بخير”.

ربما يكون أولئك “المتهمون” قد خسروا حياتهم واستقرارهم وكرامتهم بإعلان تلك الأحكام الجائرة من تلك المحاكم “المتخصصة”، لكن الأدهى والأخطر أن العدالة ونظامنا القانوني والقضائي الذي كان يحظى يوما بقدر من القداسة والتبجيل قد تلاشيا وتواريا عن أبصار المواطنين ونفوسهم. مع مثل تلك الأحكام الجائرة، المصبوغة بأحبار السياسة والمسكونة بروح الطغاة والملبدة بالأنفاس الكريهة لمثل أولئك القضاة المنزوع ضميرهم من كل قيمة إنسانية سامية ورحمة، تتلاشى قيم العدالة وكافة المحاكمات العادلة وتتحول المؤسسات القضائية والعدلية إلى صور ظل ووهم وخيال، لتغدو بمثابة الأختام المطاطية الجاهزة للمصادقة على الأحكام المسلوقة سلفا. حينها يسقط المجتمع كله في وهد الفوضى الشاملة وتتسع دائرة الضحايا وتعُمّ، ويتحول أمراء الحرب وقادة الميليشيات إلى ملوك للعدل وقضاة للقصاص من خصومهم بنفس الطريقة التي يتحول بها القنفذ إلى أمير.

“ليس القانون هو الذي يخطئ أبدا – كما قال الفيلسوف والفقيه القانوني الإنجليزي جيرمي بنثام – بل دائما ما يكون المُفسّر الشرير للقانون هو الذي أفسده وأساء استخدامه”.

يُختطف المواطنون من منازلهم مع هزيع الليل أمام أعين أطفالهم وزوجاتهم المسكونين بالرعب ومن الشوارع المكتظة بالمسلحين دون إبلاغهم بالتهم الملفقة لاحقا لهم، وفي تجاوز فاضح لكل الإجراءات الشكلية لانتزاعهم من بيوتهم وأماكن تواجدهم لينتهي بهم الحال إلى سلب حريتهم وإيداعهم السجون الموحشة المظلمة حيث تنتظرهم هناك آلات التعذيب ومقاصل الموت. غدت النزاهة وضمير الأمة، والعدالة وسيادة القانون ضحايا أوائل لهذه الاعتداءات على الحرية والإنسانية.

لقد ابتدع المهووسون بالفوضى والطغيان والاعتداء على حرية الإنسان وكرامته نهجهم الخاص والوحشي في تدمير المجتمع وما تبقى له في زمن الحرب من أمل بملاذ آمن لحريته وكرامته، وهندسوا أشكالا مبتذلة وفجة من قواعد أدلة الاتهام، وتلاعبوا بشكل مكشوف بمعايير الدعاوى المجردة من كل الأدلة الثبوتية السليمة ضد “المتهمين”. بهذا السلوك الفاسق والمدمر لبنية الضمير يكون المجتمع السوي قد فقد استواءه واستقر في قعر الهاوية.

العرب اللندنية