نجحت الجبهة القومية في الثورة المسلحة وإيصالها إلى لحظة الاستقلال بعد ترجيح كفتها لدى بريطانيا واختيارها هي، لا جبهة التحرير للتفاوض واستلام البلد لأسباب لا يجهلها الكثيرون، على رأسها (فوبيا) بريطانيا من عبدالناصر وارتباط جبهة التحرير وذراعها العسكري التنظيم الشعبي الناصري بالزعيم الخالد جمال عبدالناصر - رحمة الله عليه، ولا تثريب على الجبهة القومية إن هي انتهزت الفرصة ولم تفرط فيها وإذا جاءت رياحك فاغتنمها.

وأي فصيل ثوري أو سياسي في كل الدنيا لن يضيع فرصة كهذه، لكن ما نرمي إليه: ليس نوايا بريطانيا ولا ذكاء القومية وإنما التمعن في ماهية الرجال الذين سنحت اللحظة التاريخية بأن يصبحوا حكاما على دولة معقدة التركيب كانت حتى الـ 29 من نوفمبر 1967 م تدار عن طريق التدوير الفدرالي لرئاسة دولة الجنوب العربي الاتحادية ما بين ممثلي المحميلدات الغربية حيث لم تلتحق المحميات الشرقية، حضرموت والمهرة وأجزاء من شبوة بدولة الاتحاد.

والحقيقة أن بريطانيا استطاعت أن تراضي الكل عن طريق تدوير الوظائف العليا بحيث لم تترك فجوة للتذمر أو نشوزا في وحدة أو لحمة الاتحاد في وقت كان لهيب الثورة يلفح جدران المجلس التشريعي العدني ويصل قصف الثوار إلى مباني الإدارة الاتحادية في العاصمة مدينة الاتحاد (الشعب).

والحقيقة التي أدركتها بريطانيا جيدا أن إيصال الدولة الجنوبية الاتحادية إلى مصاف الدولة المستقلة لن يكون سوى إطالة أمد الثورة واتساع رقعة الحرب الأهلية، إذ إن فصائل الكفاح المسلح في ظل الهيجان العارم للفكر التحرري من الاستعمار وما يلعبه عبدالناصر كقائد للثورات العربية وقيام ثورة الشمال ودخول القوات المصرية إلى اليمن الشمالى وانتشارها على تخوم المحميات الجنوبية كلها عوامل تصب في مصلحة الثوار الذين اختارت بريطانيا الفصيل الأبعد عن عبدالناصر وهو الجبهة القومية.

وحتى في أروقة الدولة الاتحادية لم تكن العلاقة سلسة بين ممثلين المحميات من وزراء وإداريين الذين بلا شك لم يصموا آذانهم عن هدير الثورة وأصوات الجماهير في مسيرات لم تنقطع ضد بريطانيا والاتحاد معا.

ومع التعقيدات المتسارعة وانفتاح بريطانيا على الجبهة القومية كان الإنجليز يعطون ظهورهم للاتحاد ورجالاته من سلاطين وأمراء وحتى شخصيات عدن الرسمية النافذة، كنوع من العقاب على عدم مقدرة هؤلاء وهؤلاء على القضاء على الثوار بل حقدا على الذين انضموا إلى الثورة وفصائلها أبرزهم السلطان الفضلي، ناهيك عن شخصيات عدن البارزة مثل عبدالقوي مكاوي وعبدالله الأصنج وآخرين ربما تخفي بريطانيا حقدها على عدن تحديدا، المدينة الدولة، التي راهنت بريطانيا أن تكون بديلة لجوهرتها المفقودة الهند أو على الأقل بديلة لشرق السويس بعد تأميم عبدالناصر للقناة عام 1956م.

ولكنها فوجئت بزخم الثورة العارم يتفجر في شوارعها ويمارس من أعلى مستويات شخصياتها السياسية والنقابية والصحافية دون أن نستثنى المرأة ومنظمات المجتمع المدني والأدباء والفنانين والطلاب.

وكانت أحداث كريتر في 20 يونيو 1967م وسقوط المدينة لأيام بيد الثوار، نقطة تحول سوداء في نظرة بريطانيا إلى عدن وخاصة حرق جنود بريطانيين قتلوا في المواجهات.

وعموما هذه الواقعة برمتها سقوط كريتر وما جرى فيها وتمرد ضباط من الشرطة العربية عن تنفيذ الأوامر كانت اللحظة الفاصلة في البحث عن فصيل ثوري مفاوض على الاستقلال وتحريك الجيش الاتحادي لصالح الجبهة القومية وإسقاط المناطق واحدة تلو الأخرى واكتمال نسق المفاوضات في جنيف لتحظى الجبهة القومية بتسنم البلاد من بريطانيا في 30 نوفمبر 1967م.

لن ندخل في نوايا بريطانيا لمعرفة المدى الذي استطاعته في تجيير الجبهة القومية للعمل لصالحها، لكن المعطيات الواضحة أنها فشلت في ذلك، وأن الثوار الذين غدوا قادة للبلاد لم ينجروا إلى الخط البريطاني وربما غالوا كثيرا في ذلك لدولتهم الفتية التي كان من الممكن أن تكون في الكومنولث البريطاني وتستفيد من ذلك.

والحديث هنا لا يعتمد على الظنون والتخمينات ولكنه معتمد على الوقائع التاريخ وعلى الخط العام للقادة في بلد خرج من شرعية الثورة الى شرعية الدولة.

لا يهمنا أن تكون هناك حالات فردية لم تثبت عمليا حتى الآن، ونظل بانتظار أن تكشف وزارة الخارجية البريطانية عن ملفاتها السرية المتعلقة بالجنوب.

لكن البين أن القادة الجدد؛ وجلهم من الأميين من قادة جبهات الريف، وذوي النصيب اليسير من التعليم، ما عدا أفراد يعدون بالأصابع نالوا حظا من التعليم العالي، استطاعوا أن يوحدوا كيان الدولة ويحافظون على حياضها السيادي دون أن نغمز قناة أحدهم بالخيانة أو العمالة.

أما كيف تسنى لهم أن يمتصوا السخط المتولد من جراء انتقال الجنوب وتحديدا عدن العاصمة من حالتها تحت الإدارة البريطانية، بمستويات عيشة جيدة وحياة اجتماعية راقية ووسائل خدمات متطورة ومتوفرة ودخل مالي أفضل، فمرجعه بالأساس إلى التحاق القادة بسائر المواطنين دون فوارق تذكر مالية أو اجتماعية، وخضوع الجميع لقوانين الدولة بما ذلك قانون الخدمة المدنية وقانون المرتبات.

وهذه الخاصية التي قد يراها البعض عديمة الفائدة، كان لها فعل السحر في رضى المواطن عن حياته رغم ما يكتنفها من صعوبات، لأنه يرى ولاة أمره -أو لنقل الرفاق المسؤولين- لا تختلف حياتهم عن حياته في شيء.

وهذه الحالة أفرزت نماذج تذهل الإنسان وخاصة شبابنا الذين لم يعاصروا تلك الفترة: رئيس عملاق مثل سالمين يستدين من البقالة القريبة من بيته إلى نهاية الشهر حتى يستلم الراتب، وقس على ذلك البقية، ومن الطبيعي أن تشاهد أبناء الشهيد علي عنتر ذهابا وإيابا إلى مدرستهم سيرا على الأقدام، ومثلهم أقرانهم من أبناء المسؤولين الكبار، بل إن الرئيس علي ناصر يحضر اجتماعات مجلس آباء المدرسة التي يتعلم فيها أبناؤه كأي أب وليس رئيسا للبلاد.

الفقيد عبدالله باذيب ظل يبحث عن علبة حليب دانو لأطفاله من بقالة إلى أخرى ليطعم أحد أطفاله دون أن يلجأ إلى منصبه الكبير ليأخذها بكل يسر من شركة التجارة، والأمثلة لا تحصى.

ما نريده ليس العودة إلى ذلك الزمن لصعوبة ذلك ولمخالفة ذلك لقوانين الحياة وتطورها، ولكننا لا نريد أن نكون مثاليين بالحالة التي بينت جوانب منها آنفا، ثم نصل إلى هذا المستوى من الانفلات والسقوط والانحدار كما نشاهده اليوم، عدن والجنوب يلفه الظلام ليلا وتقتل مواطنيه -بما في ذلك الأطفال- حرارة الشمس الجهنمية نهارا، و قادة النسق الأول من الشرعية والانتقالي يرون كل ذلك ولا يحركون ساكنا وهم وأولادهم وأسرهم يعيشون في عالم آخر ولا يعنيهم أن يموت شعب بأكمله جراء حروب الخدمات منذ عشرة أعوام.

رواتب الطبقة المسحوقة وهي غالبية الشعب لا تصل للغالبية ومن يستلمون رواتبا تكاد لا تسد احتياجات أسرهم لأسبوع.

تلاشي الطبقة الوسطى والتحاقها بالطبقة الفقيرة، حيث لا يوجد الآن سوى طبقة المستفيدين من هذه المعاناة، وهم في سقف المجتمع، وطبقة أخرى واسعة وكبيرة هي الشعب بأغلبيته في قاع المجتمع، وما بينهما فراغ شاسع شاسع.

سئل الإمام علي كرم الله وجهه: من أحقر الناس؟

فقال: من ازدهرت أحوالهم يوم جاعت أوطانهم.