​قبل 24 ساعة من انقضاء المدة الدستورية لقبول استقالته (30 يومًا) فر الرئيس عبدربه منصور هادي من الحصار الذي فرضته جماعة "أنصار الله" الحوثية على منزله في صنعاء، ووصل إلى عدن في الـ21 من فبراير2015، وهناك تراجع عن استقالته معلنًا عدن عاصمة موقتة للجمهورية اليمنية إلى حين "إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة ورفع العلم في مران"، ولم يتحقق أي من هذه الأهداف حتى اليوم. وفي السابع من أبريل 2022 أعلن رسميًّا فشل الحل العسكري، وأن المسار السياسي هو المخرج الآمن والكفيل بخلق مناخات لعودة الاستقرار للبلاد.

هناك قناعة عند الجميع بأن التوصل إلى بدايات المسار السياسي يلزم لتحقيقه القناعة أولًا بحتمية حدوثه، ثم وجود توازن بين القوى المتحكمة في الأرض، وكذلك وجود القيادات (مجازًا) بين الناس، إذ من دون ذلك لا يمكن توقع الوصول إلى نقطة التقاء تقدم فيها الأطراف رؤاها الواقعية بما يتلاءم مع الحقائق في الميدان.

من المتعارف عليه في القواعد الأساسية للمفاوضات أن يشارك كل طرف بأهداف محددة يريد الحصول عليها، وانسجام بين ممثليه يساعد في تماسك مواقفه، وقوة حقيقية تمكنه من المساومة، وإذا ما اختلت هذه القواعد فإن موقفه يصبح هشًّا وعرضة لتقديم مزيد من التنازلات المؤلمة.

وعلى رغم الهوة السحيقة التي تفصل بين سلطتي عدن وصنعاء، إلا أنهما تلتقيان عند اعتبار المواطن وسيلة للمساومات والضغط كل منهما على الآخر.
  • سلطة قمع في صنعاء
"السلطة" في صنعاء تقمع كل صوت معترض أو منتقد أو حتى معبر عن موقف، وهي تستولي على كل الموارد المتاحة وعلى رغم ذلك لا تدفع المرتبات ولا تقدم أية خدمة عامة للمواطنين، وهي تعتبر وجودها قدرًا إلهيًّا واصطفاء لا ينازعها فيه أحد، ولا يجوز الاقتراب منه بالنقد أو حتى مجرد إبداء الملاحظة، وهي تمارس التمييز في الوظيفة العامة بين المواطنين بحسب انتماءاتهم المناطقية والأسرية، وباختصار شديد هي مقتنعة بأنها الأقدر والأجدر والأحق والأنسب لحكم الناس، حتى لو كان غصبًا ونقيضًا لرغباتهم.
  • أكثر من "سلطة" في عدن
كان من الممكن أن تسقط "السلطة" في صنعاء لو تمكنت التي في عدن أن تقنع المواطنين بجدارتها وقدرتها وكفاءتها، لكن ممارساتها جاءت مخيبة للآمال والتطلعات، وهذا الفشل الذريع ليس سببه نقص الموارد فقط كما تزعم، وإنما بسبب الفساد وانعدام الرؤية والغياب والمنازعات وانتهاك الدستور والقانون والتعطيل المتعمد لأهم المؤسسات الرقابية من مجلس النواب ومجلس الشورى والإصرار على تغييبهما، وتجري محاولة منح دورهما إلى هيئة غير دستورية تعمل خارج كل الأطر القانونية على رغم ما تستنزفه من المال العام. والمؤسف أن أعضاءها أمناء عامون لأحزاب وأعضاء مجلس النواب كان من المفترض أن ترتفع أصواتهم احتجاجًا واعتراضًا، لكنهم قدموا المزايا المادية على احترام المسؤولية الوطنية.

في السابع من أبريل 1837 (يصادف نفس يوم نقل السلطة في اليمن من الرئيس عبدربه منصور هادي إلى مجلس القيادة الرئاسي)، نشر الكاتب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن روايته الشهيرة "ملابس الإمبراطور الجديدة".
  • ملابس الإمبراطور الجديدة
تتحدث الرواية عن إمبراطور مهووس بالملابس الغالية وينفق لاقتنائها أموالًا طائلة على حساب الإنفاق لتسيير أعمال الدولة، يغتنم نصابان هذا المزاج الفاسد، فيعرضان خياطة ثوب جديد من قماش يقولان إنه لا أحد يستطيع أن يراه إلا الموظف النزيه والكفؤ. يقتنع الحاكم بالفكرة وينهمك النصابان في حكاية الثوب، ويستدعي كبار مستشاريه وموظفيه ليستعرض الثوب، لكن لا يتجرأ أحد منهم على القول إن الإمبراطور هو في حقيقة الأمر عار حتى لا يتهمهم بعدم النزاهة والكفاءة.

واقتنع الإمبراطور نفسه بالأمر فخرج إلى الناس عاريًا تحت وهم أنه يرتدي لباسًا والجميع مندهش ومعجب، إلا طفلًا صغيرًا بريئًا لم يتلوث بالنفاق والزيف صرخ "الإمبراطور عار"، وحينها أدرك الناس أنهم خدعوا لكنهم اكتفوا بالنظر، ولكن الإمبراطور نفسه استمر في موكبه مزهوًا بعظمة ما يرتديه.

رواية إندرسن عن حال الإمبراطور العاري تحاكي حال القائمين على أمر الناس سواء كانوا في عدن أم صنعاء، فهم مقتنعون بأنهم التعبير الناصع عن النزاهة والعمل من أجل الناس، وأنهم يقدمون تضحيات جسامًا من أجل الوطن والمواطنين، بينما الواقع الذي يشعر به المواطن هو أن الأوضاع المعيشية بائسة إلى حد لم تشهده البلاد من قبل، وأن الخدمات بلغت حالًا غير مسبوق من التردي بسبب الفساد، وأن ما يحصل عليه الموظف هو أقل مما يستحقه (السفارات اليمنية في الخارج لم تستلم موازناتها ومرتبات موظفيها منذ تسعة أشهر)، وهذا يحدث بينما يسمع الجميع عن مرتبات بأرقام فلكية، ليس بالمقاييس اليمنية فحسب، بل بالمعايير الدولية يجري تقاسمها وتوزيعها في قمة السلطة وما يسمونها " الهيئات المساندة".
  • المطلوب من السلطة في عدن
تستطيع السلطة في عدن، بل يجب عليها، أن تقدم نموذجًا، لا أقول مثاليًّا، بل أكثر إنسانية وكفاءة من السلطة في صنعاء، وهذا أمر لا يتطلب أكثر من وجودها في كل محافظة "محررة"، وأن تقترب حقًّا من الناس، وأن تكون شفافة في تعاملاتها وأن تكون حازمة في معاقبة الكسل والفساد.

المواطن في صنعاء وعدن وأبين أو حجة وذمار أو الحديدة ولحج وتعز وغيرها من المدن، ما عاد مهتمًا بمن يحكمه ولا بطريقة الحكم، لأنه في الواقع بلغ مرحلة متقدمة من اليأس من جميع حاكميه، وصار يقع بين سلطتين، واحدة قامعة تبطش بكل مخالفيها في صنعاء، وأخرى عاجزة فاسدة في عدن لم تتمكن من إقناعه بأحقيتها في أن تكون "شرعية".