في عام 1854م، حدث وباء شديد الخطورة لمرض الكوليرا في مدينة لندن بالمملكة المتحدة نتج عنه وفيات كثيرة. آنداك وقبل حوالي 170 سنة من الآن كان مصدر مياه الشرب في أغلب أحياء لندن هي الآبار الموجودة في الأحياء ويتم استخراج هذه المياه من الآبار عبر مضخات تديرها شركات متخصصة.
وكان في المدينة طبيب تخدير لديه اهتمام بجمع البيانات وتحليلها حول حدوث حالات الكوليرا والوفيات الناتجة عنها بطريقة بسيطة جدًا وألهمه حماسه برسم خريطة لمدينة لندن بأحيائها وشوارعها الواسعة ووضع في الخريطة أماكن مضخات المياه في كل حي أو منطقة ثم أسقط عليها من خلال متابعته حالات الكوليرا والوفيات في كل منطقة حيث أعطى كل حالة نقطة صغيرة في الخريطة وكذلك الوفيات.
وفي قمة حدوث الوباء لاحظ تركز حالات الكوليرا والوفيات في منطقة مكتظة بالسكان وحول مكان أحد مضخات المياه، فقام بعمل جريء وكسر المضخة وتوقف استخراج الماء وضجت الناس من هذا الفعل وكان يبرر فعلته بأنه يفترض أن شرب هذا الماء سبب الوباء لكن هذه المبرر لا يستند لأي دليل علمي ناتج عن تحليل للمياه لكنه مجرد حس وبائي كان ذلك قبل اكتشاف البكتيريا المسببة للكوليرا بخمسين سنه وقبل عشرين سنه من اختراع الميكروسكوب (الجهاز التي يتم من خلاله التعرُّف على الميكروبات).
وفعلا انخفضت الإصابة والوفيات بالكوليرا بعد كسر المضخة وتقبّل الناس هذا الفعل بارتياح وانتهت محنة الكوليرا في لندن لكن السلطات المحلية والعلمية لم يرق لها هذه الفعل لأن النظرية الجرثومية لم تكن العقيدة العلمية في مناهج التعليم الطبي في إذاك الزمن حبت عارض استنتاجاته الكثير من العلماء.
هذا الطبيب الإنجليزي هو جون سنو John Snow (ولد عام 1813م وتوفي عام 1858م) والذي يسمى في عصرنا الحديث ب أبو علم الوبائيات وتُدرّس خريطته وقصته مع الكوليرا في لندن في كل مدارس وكتب الوبائيات إلى يومنا هذا.
في عام 1884 استطاع العالم الألماني روبرت كوخ Robert Kokh التعرُّف على بكتيريا الكوليرا والتي تسمى اصطلاحا ب ضمّة الكوليرا، وأثبت بأن شرب الماء الملوث بضمة الكوليرا سبب الإسهالات المائية وسببا لوباء الكوليرا وتذكّر حبنها الناس والمجتمع العلمي الطبيب جون سنو وتجربته الوبائية وأصبح مثلا جريئًا لمن يكسر المضخة.
الكوليرا مرض معدي ينتشر بشكل وبائي وكان سابقا ضمن أمراض الحجر الصحي الكامل، لكن بعد أن اتضح أن كثيرًا من حالات الكوليرا تظهر على شكل إسهال مائي بسيط قد لا يؤدي إلى تجفاف شديد وهو سبب الوفيات وأن بعض المصابين بعدوى الكوليرا لا تظهر عليهم الأعراض مما أدى إلى إخراج المرض من قائمة أمراض الحجر الصحي الكامل.
وتنتشر الكوليرا من حين لآخر كوباء في العديد من البلدان بينما تتوطن في مناطق معرضة للفيضانات المستمرة مثل ينجلاديش. وحسب المركز الأوربي لمكافحة الأمراض فان 200,314 حالة كوليرا سجلت خلال القترة من الأول من يناير حتى 31 مايو 2024م منها 1159 وفاه من مختلف دول العالم، وخلال شهر مايو 2024م فقط سجلت 48,818 حالة. كوليرا و167 وفاه، أغلبية الإصابات من خمس دول فقط، تأتي اليمن في المرتبة الثالثة بعد أفغانستان وباكستان.
وفي اليمن ظهر الوباء الكبير غلم 2017م و2018م وحسب موقع منظمة الصحة العالمية فأنه في الفترة من بداية الوباء في 27 إبريل 2017م حتى 7 أكتوبر 2018م حدثت 1,236,028 إصابة و2,556 وفاة مما أعتبر كأكبر وباء كوليرا في العالم وبنسبة تتجاوز 80 % من حالات الكوليرا في العالم.
ورغم الجهود التي بذلت لاحتواء الوباء من معالجة المرضى والإجراءات الوقائية وأهمها معالجة مياه الشرب والتوعية حول نظافة البيئة والنظافة الشخصية إلا أن المرض استمر في الحدوث ولو بمعدلات منخفضة، ويرتفع أحيانا في زيادة غير متوقعة في مناطق متفرقة، مما يطرح السؤال هل أصبحت الكوليرا مرضًا متوطنًا في اليمن؟، ولماذا تنتشر الإصابة بالكوليرا بشكل مستمر في اليمن؟
وبالعودة لبيانات نظام الترصد الإلكتروني (أيديوز) لوزارة الصحة العامة والسكان في عدن فانه حتى الأسبوع الوبائي رقم 22 لعتم 2024م فقد سجلت 9186 أصابه و59 وفاه أغلب الإصابات في عدن والضالع ولحج وتعز ببنما سجلت في نفس الفترة الزمنية لعام 2023م حوالي 3,804 أصابه و14 وفاة، وفي عام 2022م سجلت 6,453 إصابة و19 وفاة. وهذا دليل على زيادة في حالات الكوليرا في عام 2024م.
التحليل أعلاه يشمل كل الحالات المشتبهة إصابتها بالكوليرا رغم أن بعض الإصابات تم تأكيدها بالفحص السريع والفحص الزراعي. لكن أحمل ما قرأت هو تحليل البيانات الوبائية لحالات الكوليرا المؤكدة بالفحص الزراعي في محافظة الحديدة للفترة من الأسبوع الوبائي الأول إلى الأسبوع الوبائي رقم 26 لعام 2024م ب 29,323 حالة مؤكدة مقارنة ب 876 حالة مؤكدة لنفس الفترة لعام 2023م و2,784 حالة مؤكدة عام 2022م. هذه التحليل المنطقي يعطي تأكيدًا للحالة الوبائية للكوليرا في اليمن من حيث الزيادة المضاعفة وتأكيد التشخيص بالفحص الزراعي.
أي وباء يظهر بأشكال وأنماط مختلقة حسب مصدر العدوى والتعرض له. فمنه المصدر المشترك مثل مياه الشرب ومنها المصدر المتقطع كالانتقال عبر لدغة البعوض مما يحتاج إلى أكثر من فترة حضانة لحدوث العدد الكبير من الحالات. المصدر المشترك له أنماط مختلفة منها النمط النقطي مثلا تظهر كل الحالات في فترة قصيرة خلال فترة حضانة واحده وينتهي الوباء بسرعه ومثال على ذلك أوبئة التسمم الغذائي. والكوليرا من أمراض المصدر المشترك لكن ذات النمط المستمر أما لأن المصدر المشترك لازال مستمرًا حتى يتم توقيفه أو أن الانتقال ينتشر من شخص لآخر عبر الملامسة بالأيادي غير النظيفة. وبالتالي فأن الكوليرا كمرض لم يصل إلى درجة التوطن في اليمن لعدم وجود الزيادات الموسمية المرتبطة بزمن ومكان محدد ولكنه وباء من نمط المصدر المشترك المستمر.
وعلى كل حال فإن انتشار الكوليرا له مضخات مستمرة تحدد سيرها منها ماء الشرب الملوّث، الطعام والشراب الملوّث، عدم نظافة البيئة وتدني الإصحاح البيئي من تطاير القمامات واختلاط مخلفات المجاري بمياه الشرب إضافة للنظافة الشخصية خصوصا عدم الاهتمام بغسل الأيدي.
*أستاذ طب المجتمع - كلية الطب جامعة حضرموت (اليمن).