> هشام النجار:

عكست ردود أفعال المنتسبين لتنظيم القاعدة على أزمة إيران ومحورها  عقب الضربات القوية التي أصابت البنية العسكرية لحزب الله واغتيال زعيمه حسن نصرالله، حرصه على الابتعاد عن مسار محور المقاومة، مؤثرًا مراقبة الأوضاع عن بُعد لترقب ما الذي سوف تؤول إليه المواجهات متعددة الجبهات بين فصائل المحور وإسرائيل.

ويُدرك قادة القاعدة أنهم لا يمتلكون رفاهية الاختيار إذا طلبت منهم قيادة المحور تنفيذ مهمة بهدف المناورة وتوزيع الأدوار وتخفيف الضغوط عن المركز والأذرع، في حين تتوخى طهران ألا يظهر التنظيم المصنف إرهابيًا بقوة في مشهد الأحداث الحالية كي لا يُنسب إليه الفضل في تحقيق إنجاز، مستغلًا المواجهة غير المسبوقة والضعف الطارئ على الأذرع الشيعية، مُحققًا طفرة دعائية لمجمل الجهاديين السنة.

وبدا واضحًا أن هناك توجها لدى تنظيم القاعدة للعمل منفردًا بمعزل عن محور إيران المتراجع والذي يتعرض لأزمة وجودية، بعد وضوح الرؤية لدى مختلف الحركات المسلحة السنية بشأن لعب طهران بمختلف الأدوات على الساحة لممارسة ضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل لتحسين وضعها التفاوضي على ملفاتها الخاصة.

وظهر هذا التحول في تأسيس القاعدة لفرع جديد له داخل قطاع غزة يُدعى “حراس القدس” في الخامس من سبتمبر الماضي، عاكسًا الرؤية العالمية للتنظيم، وما يلفت النظر حرص الفرع الجديد على مفارقته لمحور إيران موجهًا النقد اللاذع لحزب الله إلى جانب الحركات التقليدية الأخرى المنافسة له مثل تنظيم داعش.

ومن المرجح أن تسند قيادة محور إيران مهامّ عاجلة للأدوات السنية، خاصة القاعدة المركزي، تتناسب مع حجم المأزق الراهن لتخفيف الضغوط عنه عبر تنفيذ عمليات نوعية تستهدف المصالح الغربية والإسرائيلية، في ظل فقدان طهران القدرة على اللعب بأوراقها الخشنة بعد الانتكاسة التي أصابت حزب الله، وهو رأس حربتها في المنطقة، فضلًا عن أن المركز لا يملك القيام بضربات مؤلمة حرصًا على عدم الانجرار إلى مواجهة شاملة.

وبعد الخسائر الكبيرة التي لحقت بحزب الله واحتمال انهيار جبهة جنوب لبنان عقب انتكاسة قوية حلت بجبهتي غزة والضفة الغربية، من المتوقع أن تحرك طهران الميليشيات العراقية والحوثيين في اليمن خلال المرحلة المقبلة، وتظل ورقة تنظيم القاعدة مطروحة لدى المركز في طهران كونها تتسم بميزة تفتقر إليها كل أذرعها الشيعية، حيث لا يتمركز تنظيم القاعدة في مكان محدد معروف يتيح استهدافه بسهولة، وهو قادر على ضرب مصالح أميركية وإسرائيلية حول العالم، انطلاقًا من التوسع الذي حققه في أفريقيا.

وأوحى القاعدة أنه يتراجع خطوات إلى الوراء مُظهرًا عدم التماهي مع محور إيران في هذه المرحلة المعقدة، حيث عبّر غالبية المنتسبين للتنظيم على المنصات والغروبات التقليدية التابعة له على مواقع التواصل الاجتماعي عن الفرحة حيال ما تعرض له حزب الله وزعيمه، معتبرين أن الضربات القاسية وإن نفذتها إسرائيل هي بمثابة انتقام إلهي من حزب طائفي أمعن في سفك دماء السنة في سوريا ولعب الدور الأهم في تنفيذ مشروع إيران الطائفي في المنطقة على حساب مصالح السنة.

وأطلق هاني السباعي، وهو أحد المنظرين الرئيسيين بالقاعدة من مقر إقامته بلندن، فتوى يجيز فيها إظهار الشماتة والسرور في مصائب حزب الله وإيران ومن سماهم “فراخ الشيعة في اليمن والعراق”، معتبرًا ذلك “جزاء وفاقًا لجرائمهم ضد أهل السنة في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن ولبنان”، كما نشرت مؤسسة النازعات وهي من إعلام القاعدة الرديف منشورًا بعنوان “البرهان بجواز الفرح بهلاك حزب إيران”.

ولم يحدث إجماع في السابق بين غالبية فصائل القاعدة ومنظريها وناشطيها يجسد الموقف السلبي من إيران وأذرعها الشيعية، إذ كان هناك دائمًا من يعبّر من داخل التنظيم عن وجهة النظر المخالفة التي تعتبر حزب الله ومجمل محور إيران شركاء في الجهاد والنضال على طريق نصرة قضايا المسلمين وتحرير المقدسات ومواجهة الاستكبار الغربي والأميركي، تعبيرًا عن موقف جناح نافذ داخل القاعدة يقيم شراكة مع الميليشيات الشيعية داخل محور إيران ويحظى برعاية ودعم مباشرين من الحرس الثوري الإيراني ويقيم بعض قادته في طهران.

ويمكن تفسير صمت ناشطي جناح القاعدة المركزي الذي تربطه شراكة قوية مع فصائل محور المقاومة، علاوة على غلق موقع “مافا السياسي” الذي كان يبث من طهران والمعبّر عن هذا التوجه، في ضوء المستجدات المفصلية التي من المرجح أن تكتب مصيرًا مختلفًا باتجاه تدهور لنفوذ إيران في المنطقة ومجمل ميليشيات الإسلام السياسي الشيعي.

وانعكس تدهور أوضاع محور المقاومة وأذرعه على تنظيم القاعدة بالسلب، بالنظر إلى انكشاف الغطاء السياسي والأمني والمالي الذي استظل به على مدار سنوات، فضلا عن حضور فرضية تشير إلى إمكانية تكليفه بعمليات متقدمة تفي بخدمات إيوائه ودعمه وتدريب مقاتليه وتدخل في حيز الضريبة التي ينبغي دفعها كأحد أركان المحور غير المعلنة.

ويخشى قادة القاعدة المركزي المرتهنين للنظام الإيراني على خلفية الدعم المالي وتوفير الحماية لقادته من أن يكون مصير كيانهم وفقًا لتسلسل الأحداث هو ذاته مصير حركة حماس السنية، بعد أن ثبت له عمليًا أن وكلاء المحور ومركزه لا يضحون بأنفسهم من أجل فلسطين، وأن إيران نفسها تحرص على عدم الإفراط في استخدام مواردها الإقليمية ضد إسرائيل إنقاذًا لوكلائها القريبين منها، ناهيك عن الوكلاء الأقل أهمية مثل حماس والقاعدة.

ويجد قادة تنظيم القاعدة المركزي أنفسهم خلال هذه المرحلة في مأزق مركب، فهم مُطالبون بترجمة شعاراتهم على الأرض ليثبتوا لمنافسيهم داخل التنظيم وخارجه صوابية رهاناتهم وأن اختيارهم الانضواء داخل محور إيران كان صحيحًا عبر تنفيذ عمليات تخفف الضغوط عن أجنحة المحور وفقًا لتوجيهات مركزه وتعليمات الحرس الثوري الإيراني.

ويخشى التنظيم من أن يكون ضحية سنية أخرى من ضحايا الأوهام والشعارات التي صدّرها النظام الإيراني ووكيله حزب الله للآخرين، حيث يدفعهم إلى الخطوط الأمامية للمواجهة مع الغرب وإسرائيل في غزة واليمن ولبنان والعراق، في حين يشتغل هو وفق معادلة مؤسسة على الصبر الإستراتيجي والانخراط في تسويات لجني ثمار سياسية واقتصادية.

وإذا خاض القاعدة المركزي إلى النهاية المواجهة مصطفًا داخل المحور الإيراني تحت تأثيرات ارتهانه للحرس الثوري، سوف ينال نصيبه من التراجع والتدهور والخسائر على مختلف المستويات في ما يتعلق بفقدان المزيد من القيادات والنفوذ، سواء في الداخل الإيراني أو في الساحة اليمنية، حيث ينشط بالتنسيق مع الحوثيين والعديد من الساحات الأفريقية.

وفي ضوء انتكاسته الكبيرة باتت علاقة الجهاديين السنة بوجه عام بمحور إيران على المحك، في سياق مراجعة مُفترضة يطالب بها غالبيتهم للعلاقة التي ربطت بين الثورة الإسلامية ومن تأثروا بها من جهاديين وإسلاميين سنة، حيث ثبت أن من ألهمهم صياغة خطاب التمرد والثورة والعداء للغرب لا مشكلة لديه في نهاية المطاف في أن يستثمر قتال وكلائه الشيعة، ناهيك عن السنة في التفاوض مع أميركا حول ملفه النووي ورفع العقوبات وتصدير النفط وتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط.

ويُعد تضعضع محور إيران وسقوط العديد من شعاراته التي ألهمت في السابق الجهاديين السنة نقطة فاصلة سيكون لها ما بعدها في إعادة ترتيب البيت الجهادي وربما إعادة تشكيل هيكلة القاعدة وتصعيد قيادة أخرى بخلاف تلك التي رهنت التنظيم لإيران، وهو ما تستخدمه أجنحة داخل التنظيم كدليل على سوء التقدير والتخبط واتخاذ قرارات تحت تأثير الهرب وملاحقات أجهزة الدول الأمنية.

ويشكل إضعاف إيران وحزب الله واغتيال قادة في الحرس الثوري الإيراني والحزب وتاليًا إضعاف جماعة الحوثيين في اليمن نقطة تحول كبرى في مسيرة القاعدة الذي اشتبك مع هذا المحور مؤخرًا كذراع سني مؤازر في سياق حرب بدت متعددة الجبهات ضد إسرائيل عقب هجوم السابع من أكتوبر العام الماضي. ويجد القاعدة نفسه في منطقة مختلفة داخل محور يعاني من انتكاسات متتالية ويحتاج من يسنده ويدعمه، بعد أن انخرط هو فيه قبل سنوات طويلة طلبًا للدعم والمساندة والاحتواء.

ويجري هذا التحول في ما بعد الانهيار شبه الكلي لحركة حماس في غزة وفشل حزب الله بعد مواصلة الضغط على إسرائيل من الشمال لمدة أحد عشر شهرًا في فرض وقف إطلاق النار والاستدارة الإسرائيلية لاستهدافه وتقويضه وهو الذي مثل بؤرة المحور القوية بمئة وخمسين ألف صاروخ طالما شكلت ردعًا لإسرائيل.

ويُعدّ انكشاف محور المقاومة أمام إسرائيل وداعميها الأميركيين والغربيين انكشافًا كبيرًا لتنظيم القاعدة المركزي، حيث ظهر أمام منافسيه من داخل التنظيم وأعدائه من التنظيمات الأخرى مثل داعش ضمن حلف خاسر ومهزوم، فشل في تنسيق هجوم موحد قوي على إسرائيل.

وأثبت التراجع الجماعي لمجمل محور المقاومة الدعاية المضادة التي تقول إن وكلاء إيران روّجوا لقيامهم بأنشطة عسكرية محدودة ضد إسرائيل من خلال الخطب والبيانات باعتبارها متزامنة على خلاف الحقيقة بهدف الحفاظ على ماء الوجه، وهو ما فضحته لاحقًا ردات فعل إسرائيل التي كشفت تضعضع مجمل المحور واعتماد كل فصيل على الآخر واختلاف الحسابات والتوقيتات في ما بينهم.

العرب اللندنية