> أنس بن فيصل الحجي:

تحول البحر الأحمر خلال الأعوام الأخيرة إلى أهم ممر تجاري في العالم، بخاصة إذا ركزنا على مصادر الطاقة التقليدية وكل ما يحتاجه التغير الطاقي وسياسات التغير المناخي، وتاريخيًا كان عدد البوارج البحرية وحاملات الطائرات المتمركزة في البحر الأحمر وقرب قناة السويس في البحر الأبيض المتوسط ومضيق باب المندب في خليج عدن والمحيط الهندي محدودًا ويعد على أصابع اليد الواحدة.

وبعد هجمات الحوثيين زاد عدد البوارج وحاملات الطائرات بصورة كبيرة ومن قبل دول عدة، إلا أن الوجود الأميركي داخل البحر الأحمر بحجة حماية الملاحة من الحوثيين زاد بصورة كبيرة لدرجة أن القوة النارية لهذه البوارج وحاملات الطائرات كافية لحرق دول بكاملها.

والواقع يشير إلى أن تحويل السفن وحاملات النفط والغاز المسال من البحر الأحمر والدوران حول أفريقيا لا يفيد إلا دولة واحدة فقط وهي الولايات المتحدة، وأنا هنا لا أتكلم عن نظرية مؤامرة ولا أقول إن الحوثيين متآمرين مع الأميركيين، بل كل ما أقوله إن الأميركيين أدركوا أهمية البحر الأحمر فقرروا السيطرة عليه ولكن احتاجوا لسبب، والسبب قدمه الحوثيون.

من يسيطر على البحر الأحمر يسيطر على تجارة الصين والهند واليابان وروسيا وأوروبا والشرق الأوسط، ومن يسيطر على البحر الأحمر يسيطر على معظم تجارة دول "بريكس"، وبهذا فإن الولايات المتحدة لا تحمي أسواقها فقط وتحقق مكاسب اقتصادية واستراتيجية من السيطرة على البحر الأحمر، ولكنها أيضًا تحمي الدولار الأميركي من منافسة عملات دول أخرى ولعقود مقبلة.

والسيطرة على البحر الأحمر جزء من الحروب التجارية بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا وأوروبا من جهة أخرى، وما القيود التجارية والضرائب الجمركية الضخمة على عدد من المنتجات الصينية إلا لإحكام الطوق حول الصين لمنعها من التوسع اقتصاديًا وتجاريًا، ودليل ذلك أن أثر التحفيز المالي الضخم الذي قدمته الحكومة الصينية أخيرًا لإنعاش الاقتصاد الصيني كان ضعيفًا لأن القطاعات التي يمكن أن تحقق النمو الاقتصادي في الصين تعتمد على التصدير، وهي التي تعاني الحروب التجارية والضرائب الجمركية العالية، ولهذا وجهت الصين التحفيز المالي لقطاعات أخرى تحقق نموًا أقل.

معظم الشحن في البحر الأحمر يمر من قناة السويس، ولهذا تعطينا بياناتها أكثر المعلومات دقة عن التطورات في البحر الأحمر خلال الأعوام الأخيرة، فقد أسهمت توسعتها ووجود مسارين لها في زيادة عدد السفن العابرة خلال الأعوام الأخيرة، مما أسهم في وصول عائداتها إلى مستويات تاريخية عام 2023.

وأدى الانتعاش الاقتصادي بعد إنهاء إغلاقات كورونا إلى انتعاش حركة التجارة العالمية، ومن ثم انتعاش حركة السفن في القناة والبحر الأحمر، ولكن كانت هناك تطورات أخرى تتعلق بالأمور التالية:

- أسهمت سياسات التغير المناخي والانتقال الطاقي وتزايد دور الصين في هذه المجالات في زيادة اعتماد الصين على المعادن اللازمة لتصنيع الألواح الشمسية وعنفات الرياح وبطاريات السيارات الكهربائية والسيارات الكهربائية، ومعظم عمليات معالجة هذه المعادن التي تستخرج في دول فقيرة في أفريقيا وأميركا اللاتينية تُعالج في الصين، ونتج من ذلك زيادة حركة التجارة العالمية فيها مما أدى إلى زيادة عمليات الشحن البحري التي يمر معظمها في قناة السويس والبحر الأحمر.

- الصين أكبر منتج ومصدر للألواح الشمسية وبطاريات السيارات الكهربائية والسيارات الكهربائية في العالم، والتصدير لأوروبا تحديدًا وجزء كبير للولايات المتحدة يتم عبر البحر الأحمر وقناة السويس، مما أدى إلى زيادة الملاحة فيهما.

- مع انتعاش اقتصادات الدول الأوروبية والآسيوية بعد إغلاقات كورونا زاد الطلب على النفط والمنتجات النفطية، فزاد عدد حاملات النفط والمنتجات النفطية في كلا الاتجاهين.

- زادت واردات الصين والهند والدول الآسيوية الأخرى من النفط والغاز المسال الأميركيين، والذي كان معظمه يمر من قناة السويس والبحر الأحمر، فزادت حركة الملاحة بهما، وواكب ذلك زيادة كبيرة في إنتاج الولايات المتحدة من النفط الخام والمنتجات النفطية والغاز المسال.

- قبل أحداث أوكرانيا وغزة وضرب الحوثيين للسفن كان الجميع يعرف أنه كانت مصفاتان كبيرتان تبنيان في كل من الكويت وعُمان مع توسيع مصفاة في الإمارات، مما يعني أن هذه الدول ستصدر بعضًا من منتجات هذه المصافي إلى أوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس، بخاصة مع إغلاق المصافي الأوروبية وتقليص سعة ما بقي.

- نتج من الحرب الروسية في أوكرانيا والعقوبات التي فرضتها "مجموعة السبع" والاتحاد الأوروبي تحول النفط الروسي من الأسواق الأوروبية إلى الآسيوية، وهو ما نتج منه تضاعف كمية النفط الروسي عبر قناة السويس والبحر الأحمر بأكثر من ثلاثة أضعاف، ولكن فقدان أوروبا للنفط الروسي يعني زيادة صادرات دول الخليج إلى أوروبا والتي تمر أيضًا عبر البحر الأحمر، فزادت أهمية البحر الأحمر نفطيًا بصورة كبيرة.

- نظرًا إلى انخفاض كميات الغاز الروسي المصدرة لأوروبا فقد بدأت بعض الدول مثل قطر بزيادة صادراتها من الغاز المسال إلى أوروبا والتي تمر أيضًا من البحر الأحمر.

- ما زاد الطين بِلة هو الجفاف الذي ضرب بنما مما أدى إلى انخفاض منسوب المياه في قناتها وعرقل عمليات الملاحة فيها وأدى إلى تحويل مسارات السفن وزيادة الضغط على قناة السويس والبحر الأحمر.

وخلاصة القول إن الموضوع في النهاية هو السيطرة على ممرات التجارة العالمية والحوثيون قدموا هذا السبب للأميركيين، ويمكن للأميركيين وحلفائهم وقف هجمات الحوثيين أو التخفيف منها بسهولة وبكلف بسيطة، وما يدل على هذا الكلام مستقبلًا هو أن انتهاء الحرب في غزة لن ينهي هجمات الحوثيين ولن ينهي وجود عدد ضخم من البوارج الغربية والشرقية في البحر الأحمر وقربه، ويتضح من البيانات كافة أن المستفيد الأكبر من تحول السفن عن البحر الأحمر هو الولايات المتحدة، وأكثر المتضررين هما مصر وأوروبا، ولعل توقف الشركات عن إرسال ناقلات الغاز المسال عبر البحر الأحمر يوحي بإستراتيجية الولايات المتحدة منذ عام 2014، وهي السيطرة على أسواق الغاز الأوروبية.

وجود البحرية الأميركية واستمرار هجمات الحوثيين يعني أن الغاز المسال القطري الذي من المفروض أن يباع إلى أوروبا بعد الانتهاء من التوسعة الحالية لن يستطيع منافسة الغاز الأميركي بسبب الدوران حول أفريقيا، كما أن رفع كلف شحن المنتجات الصينية إلى أوروبا والولايات المتحدة يتفق مع السياسات الحالية القاضية بتشجيع الصناعات المحلية للتخفيف من سيطرة الصين على هذه الأسواق.

"اندبندنت عربية"