> ديميتري بريجع:

في ظل الصراعات المستمرة في منطقة الشرق الأوسط، تتعالى الأصوات الداعية إلى التوصل إلى حلول دبلوماسية تهدف إلى تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. من بين هذه الدعوات، تبرز تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أكد دعمه لحل الدولتين بوصفه طريقًا لإيجاد حل دائم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأبدى قلقه من الأخطار المحتملة للحرب بين إيران وإسرائيل.

هذا التصريح جاء في سياق منتدى أعمال مجموعة بريكس في موسكو، حيث استعرض بوتين التحديات الرئيسة في المنطقة، وأكد عدم إمكانية الاعتماد على الحلول الاقتصادية وحدها لحل القضية الفلسطينية.
  • موقف روسيا من حل الدولتين
لطالما كان موقف روسيا داعمًا لحل الدولتين كخيار لتحقيق الاستقرار بين إسرائيل والفلسطينيين. رؤية موسكو تستند إلى أهمية تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بإنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة التي لم تُنفذ حتى الآن. يُعزى هذا الموقف الروسي إلى الرغبة في تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، وهو أمر ذو أهمية استراتيجية لروسيا؛ نظرًا إلى تأثير استقرار المنطقة في الأمن الدولي وطرق التجارة، بالإضافة إلى الارتباطات التاريخية والدبلوماسية بين روسيا والعالم العربي.

شدد بوتين في كلمته على أن غياب الإرادة السياسية لتنفيذ هذه القرارات يعد من الأسباب الرئيسة لتفاقم الأزمة. ويبدو أن روسيا تسعى أن تكون لاعبًا رئيسًا في أي تسوية محتملة، حيث أبدى بوتين استعداد بلاده للاضطلاع بدور الوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، بشرط وجود اهتمام حقيقي من الأطراف المعنية. يمكن أن نرى في هذا الموقف محاولة من روسيا لتعزيز نفوذها في المنطقة، في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة انتقادات بشأن عدم قدرتها على إحراز تقدم حقيقي نحو السلام.
  • أخطار الحرب بين إيران وإسرائيل
تُشكل العلاقات المتوترة بين إيران وإسرائيل إحدى القضايا الحرجة التي تهدد استقرار الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، حذر الرئيس الروسي من أخطار اندلاع حرب بين الطرفين، مشيرًا إلى أن “الحلول الوسط ممكنة، لكنها صعبة التحقيق“، وهنا تأتي أهمية الوساطة الدولية لمنع التصعيد، حيث يمكن لروسيا أن تؤدي دورًا محوريًا في هذا السياق؛ بسبب علاقتها القوية مع إيران، وعلاقتها المتوازنة مع إسرائيل.

إن احتمال نشوب نزاع بين إيران وإسرائيل يحمل في ثناياه تهديدات واسعة، ليس فقط على المستويات السياسية والعسكرية؛ بل أيضًا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. يُذكر أن التوتر بين الطرفين تصاعد على مدى السنوات الماضية، لا سيما في ظل العمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، التي تستهدف مواقع تراها مرتبطة بالنفوذ الإيراني. هذا بالإضافة إلى أن البرنامج النووي الإيراني يشكل مصدر قلق لإسرائيل، التي تراه تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
  • مجموعة بريكس والشرق الأوسط
توسعت مجموعة بريكس لتشمل مصر، وإثيوبيا، وإيران، والإمارات، في خطوة تعكس رغبة المجموعة في تعزيز حضورها على الساحة الدولية وتوسيع نطاق نفوذها في العالم. في هذا السياق، تأتي أهمية الشرق الأوسط بوصفه مركزا استراتيجيًّا للطاقة والاقتصاد، حيث تسعى القوى الدولية إلى تعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، ومنها الدول الأعضاء الجدد في مجموعة بريكس.

أشار بوتين إلى أن قمة بريكس المقررة في قازان ستناقش أوضاع الشرق الأوسط، مع توجيه الدعوة للرئيس الفلسطيني محمود عباس للمشاركة، وهذا يعكس اهتمام روسيا والمجموعة بشكل عام بتعزيز الحوار الإقليمي، وإيجاد حلول للمشكلات القائمة. ومع توسع المجموعة، يُتوقع أن تؤدي دورًا أكثر فاعلية في معالجة القضايا العالمية، ومنها الصراع في الشرق الأوسط.

تسعى روسيا، من خلال مجموعة بريكس، إلى تقديم نفسها بديلًا للنموذج الغربي في إدارة الأزمات، إذ إن المجموعة، التي تضم دولًا نامية ذات إمكانات اقتصادية ضخمة، تستطيع تقديم دعم اقتصادي ودبلوماسي قد يسهم في خلق بيئة تتيح فرصًا للتسوية السلمية، لكن هذا الطموح يواجه تحديات كثيرة، من بينها تعقيدات الصراع الإقليمي، والتوازنات الدولية المتغيرة.
  • الهجمات على غزة والمحكمة الجنائية الدولية
في كلمته أمام منتدى بريكس، تحدث بوتين عن الهجمات على الأهداف المدنية في قطاع غزة، واصفًا إياها بأنها “مروعة“. هذا التصريح يعكس موقف روسيا المبدئي ضد استخدام العنف المفرط، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمدنيين. كما انتقد بوتين المحكمة الجنائية الدولية بسبب “صمتها” عن الأحداث في الشرق الأوسط بعد تلقيها انتقادات من الولايات المتحدة.

يبدو أن بوتين يستخدم هذه التصريحات لتوجيه رسالة إلى المجتمع الدولي بشأن ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمات الدولية، حيث ترى موسكو أن تركيز الغرب على قضايا معينة، وتجاهله أخرى، يمثل إشكالية أخلاقية وسياسية. من هذا المنطلق، تحاول روسيا تأكيد أهمية تبني نهجا أكثر عدالة وشمولًا في التعامل مع الأزمات الدولية، ومنها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
  • غياب بوتين عن قمة مجموعة العشرين
في سياق آخر، أعلن الرئيس الروسي عدم مشاركته في قمة مجموعة العشرين المقبلة في البرازيل، مشيرًا إلى أن حضوره قد يؤدي إلى “إفساد” المؤتمر. هذا القرار يعكس التوترات الحالية بين روسيا والدول الغربية، التي ازدادت حدتها بعد الأزمة الأوكرانية. غياب بوتين عن هذه القمة يمكن أن يُفسر على أنه إشارة إلى تعمق الفجوة بين روسيا والغرب، خاصة في ظل العقوبات الغربية المفروضة على موسكو ومحاولاتها المستمرة لإعادة توجيه سياساتها الخارجية نحو الشرق والجنوب.
  • تاريخ العلاقات الروسية – الإسرائيلية والإيرانية
لفهم موقف روسيا الحالي من الصراع بين إيران وإسرائيل، يجب النظر إلى التاريخ الطويل والمعقد للعلاقات بين هذه الدول. روسيا، بوصفها خليفة للاتحاد السوفيتي، كانت داعمًا تقليديًّا للدول العربية خلال فترة الحرب الباردة، لكن انهيار الاتحاد السوفيتي فتح الباب أمام إعادة تشكيل العلاقات الروسية في المنطقة.

من جهة، سعت روسيا منذ تسعينيات القرن الماضي إلى تطوير علاقات إيجابية مع إسرائيل، خاصة في مجالات التكنولوجيا والتعاون الاقتصادي. ومع وجود جالية روسية كبيرة في إسرائيل، كانت العلاقات بين البلدين تشهد تحسنًا مستمرًا، لكن ذلك لم يمنع موسكو من انتقاد السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في كثير من الأحيان.

من جهة أخرى، تُعد إيران حليفًا استراتيجيًّا لروسيا في المنطقة، فقد تطورت العلاقات بين البلدين على نحو كبير بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وتعززت على نحو أكبر بعد اندلاع الأزمة السورية، حيث وقفت موسكو وطهران إلى جانب النظام السوري ضد الجماعات المسلحة المدعومة من بعض الدول الغربية والعربية. هذا التحالف الاستراتيجي جعل روسيا لاعبًا رئيسًا في المنطقة، وساعدها على تحقيق نفوذ أكبر في الشرق الأوسط.
  • احتمالات الوساطة الروسية
مع تصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران، تسعى روسيا إلى تقديم نفسها وسيطًا محايدًا يمكنه التحدث إلى جميع الأطراف. روسيا تمتلك علاقات قوية مع إيران، حيث تتعاون الدولتان في مجالات متعددة، منها الطاقة والدفاع. وفي الوقت نفسه، تحتفظ موسكو بعلاقات دبلوماسية جيدة مع إسرائيل؛ مما يجعلها في وضع يمكنها من محاولة تقريب وجهات النظر بين الجانبين.

لكن تجب الإشارة إلى أن قدرة روسيا على تحقيق هذا الدور تواجه تحديات كبيرة؛ فالتوترات العميقة بين إيران وإسرائيل لا تتعلق فقط بالقضايا الأمنية المباشرة؛ بل تمتد إلى القضايا الأيديولوجية والسياسية، حيث ترى كل منهما في الأخرى تهديدًا وجوديًّا؛ ومن ثم، فإن الوساطة بينهما تتطلب جهودًا دولية متضافرة، وربما ضغطًا من قوى كبرى أخرى، مثل الولايات المتحدة، والصين.
  • مستقبل السلام في الشرق الأوسط
يبقى السؤال الرئيس عن فرص تحقيق السلام في الشرق الأوسط، في ظل التعقيدات السياسية والجيوسياسية التي تسيطر على المنطقة. من الواضح أن حل الدولتين الذي تدعمه روسيا لا يزال بعيد المنال، في ظل استمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية، وتراجع فرص التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. كما أن الصراع بين إيران وإسرائيل يزيد تعقيد المشهد؛ مما يجعل التوصل إلى تسوية شاملة أمرًا صعبًا.

مع ذلك، يمكن النظر إلى توسيع مجموعة بريكس على أنه محاولة لتعزيز الحضور الدولي للدول النامية، وقد يفتح هذا التوسع فرصًا جديدة لدعم جهود السلام في المنطقة. الدول الجديدة المنضمة إلى المجموعة، مثل إيران والإمارات، يمكن أن تؤدي دورًا في تعزيز الحوار الإقليمي، وتقديم مبادرات لحل الصراعات.
  • الخاتمة
في الختام، تظل روسيا لاعبًا رئيسًا في منطقة الشرق الأوسط، حيث تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين مصالحها الاستراتيجية ومبادئها المعلنة. دعم روسيا لحل الدولتين، ومساعيها للوساطة بين إيران وإسرائيل، ومشاركتها الفاعلة في مجموعة بريكس، كلها تعكس رغبتها في تعزيز نفوذها الدولي، والإسهام في تحقيق الاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، تبقى التحديات السياسية والإقليمية كبيرة؛ مما يجعل تحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط مهمة معقدة تتطلب تعاونًا دوليًّا وجهودًا مشتركة تتجاوز المصالح الضيقة لكل دولة على حدة. من خلال هذا النهج الشامل والمتوازن فقط يمكن أن نرى خطوات حقيقية نحو إحلال السلام في هذه المنطقة المضطربة.

"مركز الدراسات العربية الأوراسية"