> صالح حسين الفردي:

يوم السبت الثاني من نوفمبر، انطوت اثنان وعشرون عامًا على رحيل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – يرحمه الله - وفي حياة الشعوب والأمم -عبر التاريخ -عظماء يصنعون مجدها التليد، ويجسدون روحها الخالدة، التي يستعيدونها في كل محطات الحياة، ويرسون بها في مرافئ الأيام، فتغدو سيرتهم ومسيرتهم، لهذه الشخصيات العابرة للسنين والراسخة كالجبال، في الذاكرة المجتمعية والوطنية والإنسانية، هي الأحلام الوطنية والآمال الكونية لراهن الأجيال ومستقبلهم.
  • زايد في موكب العظماء
وشيخ دولة الإمارات العربية المتحدة، وحكيم الأمة العربية في الخمسين السنة الماضية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي ولد بقصر الحصن بمدينة أبوظبي في السادس من مايو من العام 1918م، كان ولم يزل وسيظل علامةً مضيئةً، وتاريخًا مشرّفًا في سجل الأيام والسنين، منذ تقلّده دفّة الحكم في مطلع سبعينات القرن الماضي، ومع بزوغ الفجر الجديد لدولة الإمارات العربية المتحدة، وانطلاقتها الرياديّة في الوطن العربي الكبير، كإطار سياسي واجتماعي وثقافي وحضاري وإنساني لسبعٍ من المشيخات العربية الأصيلة المطلّة على الخليج العربي، منذ أمد بعيد، بعيد.
  • العين بذرة الإمارات
عندما أمسك الشيخ زايد حكم العين في مطلع العام 1946م، بمقاليد الحكم والإدارة والتخطيط لمنطقة (العين) بإمارة أبوظبي، كانت تعاني بشدّة من شحّ المياه العذبة، وقلّة الموارد المالية لإحداث نقلة سريعة في متطلبات الحياة، والماء عصبها الأول والأخير، إلا أنه لم يقف عند هذه المحطة في حياة أمته وشعبه، بل اخلص لذرات تراب وطنه، فلم يطل الزمان بالعين حتى انطلق بها إلى آفاق إنسانية متعددة ومتنوعة، لتصبح تجربته فيها أولَ حجرٍ في بناء وترسيخ مداميك الوطن الإماراتي الكبير، الأمر الذي دفع بالباحث كلود موريس في كتابه (صقر الصحراء) على لسان العقيد هيو بوستيد الممثل السياسي البريطاني، الذي عاش فترة طويلة بالمنطقة قوله: (لقد دهشت دائمًا من الجموع التي تحتشد دوما حول الشيخ زايد وتحيطه باحترام واهتمام وقد شق الينابيع لزيادة المياه لري البساتين، وكان الشيخ زايد يجسد القوة مع مواطنيه من عرب البادية الذين فكان يشاركهم حفر الآبار وإنشاء المباني وتحسين مياه الأفلاج والجلوس معهم ومشاركتهم الكاملة في معيشتهم وفي بساطتهم كرجل ديمقراطي لا يعرف الغطرسة أو التكبر، وصنع خلال سنوات حكمه في العين شخصية القائد الوطني بالإضافة إلى شخصية شيخ القبيلة المؤهل فعلا لتحمل مسؤوليات القيادة الضرورية).   
  • زايد وأول اتحاد عربي قوي ومتين وراسخ
في الثاني من ديسمبر من العام 1971م، وحّد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بمعية الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم دولة الإمارات العربية المتحدة، وأرسى قواعد العمل المؤسسي لدولة عربية تهفو إلى المستحيل وعينها على الممكن وقلبها عن الواقع وحلمها بالمستقبل لا يغيب، وهو ما جعل هذه البدايات أكثر حيوية وتنوعًا، وأسهم بفطنته وحكمته وعميق رؤيته وحرصه على بناء دولة ذات حضور - عربيًا وإسلاميًّا ودوليًّا - في رسم الخطط الملحّة ووضع الاستراتيجيات المستقبلية، فكان - يرحمه الله - القائد الملهم والحكيم العربي الذي لم يتوانَ طيلة سنوات حكمه في بث روح العمل والجدّية في المواقف والحرص على استغلال الوقت وعدم الانشغال بسفاسف الأمور، والسعي المستمر من أجل بناء وتشييد وترسيخ إمارات العز ماضيًّا وحاضرًا ومستقبلًا.

هذه الانطلاقة لدولة الإمارات العربية المتحدة كانت ولم تزل هي النواة العميقة لأول اتحاد عربي قوي ومتين وراسخ ومستمر، أسس شيخ الإمارات وحكيم العرب لبناء دولة فيدرالية حديثة أساسها العدل والمساواة وقوامها البناء التكاملي بين مكوناتها الاتحادية كافة.
  • الشيخ زايد وملامح الوطن
حمل الشيخ زايد سمات وصفات وملامح موطن أجداده الأفذاذ، فقد أخذ من سماء الإمارات العطاء والجود والكرم، ومن الصحراء روح الوفاء والصدق والإخلاص في السرِّ والعلن، ومن الجبال والنخيل الشموخ والكبرياء والعزّة والشمم، ومن البحر الوداعة والطيبة والانفتاح على المحيط وما وراء المحيط، ومن عيون الإمارات وآبارها عذوبة الحديث وصفاء الخاطر وشاعرية الروح وجذور انتمائها ونبل أصالتها.
  • زايد نبض الخليج العربي
لم تقف طموحات وأحلام الشيخ زايد عند ما حققه من نجاحات وإنجازات في جميع إمارات الدولة الاتحادية، بل انشغل كثيرًا وتأمّل بعمق في ضرورة إنجاز مكونٍ يحتضن دول الخليج العربي جميعها، فوجد لدى الشيخ جابر الأحمد الصباح – يرحمه الله - وإخوته الآخرين من ملوك وسلاطين الخليج التوجّه نفسه، والرغبة الصادقة، فانبرى الجميع لإنشاء مجلس التعاون الخليجي، الذي تمّ التوقيع على إنشائه في (25) من مايو من العام 1981م في العاصمة أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة، واختيار الشيخ زايد بالإجماع أول رئيس للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وأول رئيس دولة فيهم يوقع على ميثاق المجلس.
  • زايد عمق عربي وإسلامي
الشيخ زايد بن سلطان كان يدرك بعمق حقيقة بناء الأوطان فيسعى بقوة نحو تحقيق أعلى معدلات النمو والتطوّر والرقي لشعبه في دولة الإمارات، وانطلاقًا من استلهامه لتاريخ وتراث أمته العربية والإسلامية، فقد نأى بدولته الاتحادية من الدخول في صراعات وتجاذبات ومحاور تشغله عن أهدافه في صناعة الإنسان الحقيقي، فكان أن اتخذ سياسة خارجية متفرّدة  اتسمت بالحصافة والحكمة والاعتدال والتوازن، ومناصرة الحق وتكريس العدالة، وتغليب لغة الحوار، وتوسيع مجالات التفاهم بين الدول، منطلقًا من إيمانه بأن السّلام حاجةٌ ملحةٌ للبشرية جمعاء، وهي المنطلقات الرئيسية التي انتهجها أبناؤه شيوخ دولة الإمارات العربية المتحدة حتى في ظل تعقيدات الاستراتيجيات وتوالي الصراعات وتعدد الأزمات السياسية التي تعصف بالكثير من دول العالم عامة والوطن العربي والإسلامي خاصة.
  • زايد رحيل نبيل وتاريخ مجيد
في التاسع عشر من رمضان 1425هـ، الموافق: الثاني من نوفمبر من العام 2004م، صعدت روح الشيخ زايد إلى بارئها - يرحمه الله، فتولى ابنه الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حكم إمارة أبو ظبي، وانتخبه المجلس الأعلى للاتحاد رئيسًا للدولة في الثالث من نوفمبر من العام 2004م، حتى رحيله في (13 مايو 2022م) - يرحمه الله - ليخلفه أخوه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، لتستمر نهضة المؤسس الرائد الأب الحكيم زايد الذي ستظل إنجازاته التاريخية ساطعة في صفحات المجد والخلود،   وستبقى مسيرة حياته  ومآثره لموطنه الإمارات والأمّة العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء نبراسًا يضيء فضاء الكون، وينثر عبير الانتماء لرجل كان ديدنه النماء حيثما حطّ ورحل وحلّ، مقدمًا للبشرية نموذجًا من الزعماء الذين اندمج مع أفراد شعبه، وتماهى مع أمنيات وأحلام شبابه، فجسّدت بساطته في العيش وتواضعه في الحياة دروسًا أكثر عمقًا وتراثًا أخلاقيًا يستمدّه اليوم ويترجمه واقعًا أبناؤه الشيوخ الكرام، وينسجون من تلك الملامح في خطاهم وخططهم تلك العبقرية الخالدة، فعشرون عامًا على الرحيل، أظهرت بجلاء ونقاء أن سيرة ومسيرة زايد الخير، هي أمس الإمارات المجيد، وحاضرها المشرق اليوم، ومستقبلها الواعد في كل غد.

* كاتب وإعلامي وناقد فنّي: حضرموت – المكلا.