> إعداد/ عبد القادر باراس:

نسعى في هذه السطور إلى استعادة شريط الذكريات، والعودة إلى أجواء رمضان في عدن كما عاشها أجدادنا وآباؤنا قبل أكثر من نصف قرن. نحاول من خلالها أن نرسم ملامح ذلك الزمن الجميل، ونتأمل كيف كانت حياة الناس خلال شهر رمضان بشيء من الأحاسيس.

حاولنا أن نسلط الضوء على أبرز المظاهر ونمط حياة الناس في عدن في رمضان خاصة أن العديد من الأسر ما زالت تحافظ على بعضٍ من تلك العادات.

نأمل أن تأخذكم هذه السطور في رحلة عبر الزمن إلى أيام مضت، لكنها لا تزال حاضرة في ذاكرة أبناء عدن، لنعيش معا روح رمضان كما كان في الماضي.


الاستعداد بقدوم رمضان يبدأ في الأيام العشر الأخيرة من شهر شعبان، وترى المحال المختصة ببيع احتياجات رمضان مكتظة بالمتسوقين، حيث تزدحم رفوفها بالسلع المتنوعة التي تلبي احتياجات الأسر حسب قدراتهم، وربات البيوت يتوجهن إلى الأسواق لشراء احتياجات رمضان، حيث كن يذهبن إلى محلات الكشي المتخصصة في بيع البهارات ومتطلبات رمضان، مثل العتر، والشوربة، والكستر (اللبنية)، والبدنج، والبدامي، واللوب، والدجرة، بالإضافة إلى دقيق (الفورولي)، ويرسلن البر (القمح) إلى الطواحين للحصول على الشوربة، وقد كانت تلك الطواحين منتشرة في كثير من الأحياء، لكنها بدأت بالانحسار حتى اختفت في وقتنا الحالي.


كانت الأمهات يخطن الملابس التي تسمى بـ "الشعبانية" أو "الجدونة"، وما زال الكبار يتذكرون عندما كان الأطفال يتجمعون حاملين الفوانيس، وهم يرددون بأصواتهم البريئة: "يا مساء الخير يا مساء النور، جينا نمسيكم يا جماعة"، ويجوبون الأحياء مرددين: "ما نخرج إلا بالمي"، يرش عليهم الأهالي الماء في جو من المرح، فينصرفون بعدها. ويقوم البعض منهم بالدوران بين الأحياء منشدا: "مرحب مرحب يا رمضان"، ويجمعون ما تيسر من الطعام والشراب بأصوات طفولية تتردد هنا وهناك.

أما أرباب الأسر فكانوا يهتمون بأمور أخرى، إذ يذهبون إلى أسواق اللحوم والخضار لتوفير احتياجاتهم. كما كانوا يهتمون بشراء بعض الحلويات لأطفالهم، بالإضافة إلى بعض الألعاب التي اعتادت الأسر على إحيائها في الأحياء الشعبية خلال شهر رمضان، مثل لعبة الكيرم، والدمنة، والبطة (الكوتشينة)، والفتاتير للأطفال الأصغر سناً. وكان بعض الآباء يقومون بشراء سراجات لإضاءة الشارع من منازلهم، ليتمكن الشباب من اللعب على ضوئها.


وقبل أيام من حلول شهر رمضان، يستقبل الأهالي الشهر بإحراق الإطارات على قمم الجبال.

في الخمسينيات، كان يتم رؤية هلال رمضان وشوال من على جبل باب السلب.

ويمكن مشاهدة الهلال من الأماكن التالية في عدن: لحج، والعند، والوهط، وفقم، وعمران، والغدير، والبريقة، والشيخ عثمان، والمجراد، وطارشاين، وقمة جبل باب السلب، وجبل العقبة، ومدرسة جبل حديد، وجبل شمسان، وجبل الساعة، والقلعة الصغيرة، ومستشفى الجيش، وشيبل هل، والجبل الأحمر، وباب المندب، وميون، ورأس برادلي، وساحل عدن الذهبي، والجهة البحرية الغربية. فلو خرج أحد في زورق بخاري في الجهة البحرية الغربية، لشاهد الهلال.

وفي أول ليالي الشهر الفضيل يتغير التذكير قبيل الفجر إلى موشح ديني مطلعه: "أيها النوام قوموا للفلاح"، وهو موشح فيه الحث على القيام وإدراك آخر الليل وسُنَّةِ "الفلاح" (السحور)".

ومن تلك الاجتماعات ما رُتب في شهر رمضان المبارك، كإقامة صلاة التراويح، والاجتماع بعدها لقراءة أذكار بعد صلاة الوتر وأذكار شهر رمضان المبارك والمدائـــح النبوية والقصائد الوعظية من المنشدين وقراءة حضرة الإمام العيدروس عقب الانتهاء من الأذكار مساء الاثنين.


لا يزال الكثيرون يتذكرون عندما كان يشرع المؤذن منذ منتصف شعبان بالترحيب بشهر رمضان بعد آذان العشاء إلى أخر ليلة من الأسبوع الأول من شهر رمضان، كما لا زالوا يتذكرون الأدعية التي يسمعونها عقب كل صلاة من صلوات هذا الشهر الفضيل.

قبيل صلاة العشاء، كان الإمام يفتح كتابه، وتعلو من حوله أدخنة البخور من كل مكان، ثم يبدأ بالإنشاد بروحانية جميلة، وحوله الأطفال والشباب والرجال والشيوخ. يتردد الصوت العذب في أرجاء المسجد، مملوءًا بأجواء الخشوع والسكينة.

ومع انتهاء صلاة التراويح، يجتمع الناس في دائرة صغيرة حول الإمام، حيث يدور صيوان الشاي والقهوة بين الجميع. هذا يقدم الشاي، وذاك يقدم القهوة، في مشهد يعكس روح التآلف والمودة بين المصلين.

أما في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، والتي تُسمى "أيام الختوم"، كانت هناك عادة جميلة تتمثل في إحضار الشاي والقهوة والبسكويت. يتسابق الأطفال للحصول على كوب شاي أو قهوة وقطعتين من البسكويت.

وتجد كبار السن يسترجعون ذكرياتهم عن شهر رمضان، حيث يروون أن الحياة في فترة الأربعينات من القرن الماضي كانت بسيطة. عندما كانوا أطفالاً، يتذكرون في أول أيام رمضان تجمعاتهم أمام المساجد القريبة من بيوتهم. ومع بدء المؤذنين في تلاوة أذان المغرب، كانوا يندفعون في سباق حماسي نحو المنازل ليعلنوا أن وقت الإفطار قد حل. في تلك الفترة، لم تكن مكبرات الصوت قد أُدخلت إلى المساجد بعد، ولم تكن الكهرباء قد وصلت إلى عدن. كان غياب المدفع الذي يُطلق للإفطار، بالإضافة إلى عدم وجود محطة إذاعية تُذيع الأذان.

كانت العديد من الجاليات والأقليات الدينية، مثل اليهود والمسيحيين في عدن، تحترم شعائر المسلمين في شهر رمضان، ومنهم من كان يؤجل تحضير وجبات طعامه لتتناسب مع أوقات تناول المسلمين لوجباتهم، حرصًا على عدم جرح مشاعر الآخرين، حيث كان المستعمر البريطاني يمنع في شهر رمضان المظاهر التي قد تجرح مشاعر الصائمين، مثل التدخين في الشوارع وتناول الطعام.

وكان بعض الأعيان والعلماء يناشدون باستمرار أصحاب المطاعم والمقاهي خاصة في الخمسينات من القرن الماضي بضرورة إغلاق محلاتهم طوال الشهر المبارك، احتراماً لمشاعر المسلمين في البلد.

بعد دخول الكهرباء كانت الأحياء في عدن تتزين بالمصابيح والأنوار، ويصطف الأهالي الكراسي والطاولات استعداداً للعب ألعاب مثل "البطة" (لعبة الورق)، و"الكيرم"، و"الدمنة"، وكان الأهالي بعد صلاة المغرب يخرجون أسرتهم (قاعيدهم) المصنوعة من الحبال ليجلس كبار السن عليها.

كانت تجرى ترتيبات لتوفير وتوزيع المياه في أوقات مختلفة على مناطق عدن، حيث كانت سلطات عدن في أواخر الأربعينيات إبان الاستعمار البريطاني تعمل على إجراء تغييرات في شهر رمضان لإيصال المياه إلى المنازل في فترات محددة للمساعدة في تلبية احتياجات غالبية مستهلكي المياه وكانت تعلن عن تغييرات في فترات توصيل المياه إلى المنازل، ففي السابق كان التوقف عن ضخ المياه يبدأ من منتصف النهار حتى الساعة الرابعة مساء، ثم يعود التوقف من صباح اليوم التالي، لكن خلال شهر رمضان تتغير فترات انقطاع المياه عن جميع المستهلكين باستثناء عدن الصغرى، وذلك من الساعة التاسعة والنصف صباحًا حتى الساعة الرابعة مساء، ثم يعود التوقف من الساعة السابعة والنصف مساءً حتى الثانية عشرة منتصف الليل، وقد تم اعتماد هذه الترتيبات لمساعدة المستهلكين وتوفير أربع ساعات إضافية، بين منتصف الليل والرابعة صباحًا من اليوم التالي.