> رلى موفّق:
لم يبقَ لإيران في «المحور» الذي أمضت عقوداً أربعة في رعايته سوى جماعة «الحوثي» في اليمن القادرة على «حرب استنزاف» طويلة، نظراً إلى الواقع الجغرافي وتعقيدات المشهد الداخلي بين المكونات اليمنية التي لها خصوصيتها في أبعادها القبلية والمناطقية والعقائدية والسياسية.
- مخزون كبير من الصواريخ
الحوثيون لديهم مخزون كبير من الصواريخ والطيران المسيَّر ووسائل أخرى. سيطروا على مقدرات الدولة اليمنية، وتوسعوا من صعدة إلى العاصمة والمحافظات الشمالية، وتغلغلوا فيها، بحيث لم يحصروا ترسانتهم العسكرية في منطقة واحدة، بل هي موزَّعة بشكل يسمح لهم بالصمود لفترة طويلة.
والأهداف التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين أمر بشن الضربات الجوية على الحوثيين هي حماية السفن والطائرات والأصول البحرية الأمريكية، واستعادة حرية الملاحة. وهو توعَّد بأنه لن يسمح لأي قوة إرهابية بمنع السفن التجارية والبحرية الأمريكية من الإبحار بحرية في الممرات المائية حول العالم.
على الدوام، كانت «حرب البحار» تشكِّل جزءاً رئيسياً من الصراعات الدولية، لما تحمله من تأثير على التجارة العالمية وأمن الدول الساحلية. وهي حرب تطورت من المعارك التقليدية إلى الهجمات باستخدام الطائرات المسيَّرة والصواريخ، ما يجعلها ساحة معقدة للصراعات الجيوسياسية والاقتصادية. هذا هو راهناً حال الموقع الاستراتيجي لليمن والذي من خلاله يقبض الحوثي، ومن خلفه إيران، على خطوط الملاحة الدولية من البحر الأحمر وبحر العرب إلى خليج عدن ومضيق باب المندب.
لن تكون المواجهة الأمريكية مع «الحوثي» سهلة. فإيران تلعب ورقتها الأخيرة. تُراهن على حرب استنزاف طويلة للأمريكيين في «حرب البحار»، التي هي مرتكز استراتيجيتها المتبقي وملاذها الممكن، ويشكل «الحوثي» الثقل فيها. وقد عمل «الحرس الثوري» على تزويد تلك الجماعة بالتكنولوجيا والقدرة والمعرفة، بالرغم من الاعتقاد السائد بأن «الحوثي» لا يملك الخبرات للتعامل مع الصواريخ الباليستية والطائرات المسيَّرة المتداخلة مع الصواريخ المجنَّحة، وأن خبراء إيرانيين ومن «حزب الله» هم مَن يتولون تلك العلميات المعقدة.
الأكيد أن الضربات الأمريكية في عهد ترامب تختلف عن تلك التي استهدفت الحوثيين في أيام سلفه جو بايدن وتشكيله تحالف «حارس الازدهار» لحماية السفن، ذلك أن ضربات اليوم تشمل القواعد العسكرية، والمخازن، والقادة، والمقرات السياسية، والمنظومات الدفاعية الصاروخية. وهي أكثر تركيزاً وأكثر دقة، وتحقق نتائج وتصيب مخازن وقواعد وقيادات حوثية، ولا سيما القيادات الميدانية.
الربط مُحكم بين إيران والحوثي. فالمعركة واحدة المصير. كانت النظرية السابقة هي أن «حزب الله» يحمي أبواب طهران، و«وحدة الساحات» قادرة على أن تمدَّ وتصون قوة طهران خارج حدودها. سقط «حزب الله» وتلاشت «وحدة الساحات». أصبح «الحوثي» الورقة الأخيرة التي يمكن أن يتكئ عليها مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي لحماية نظامه والإمساك بـ«عنصر قوة» يمكن توظيفه في المفاوضات حول مستقبل مشروعه النووي.
ففي خطابه السنوي بـ«عيد النوروز» في 20 مارس، قال خامنئي: «إن الأحداث في اليمن والاعتداء على الشعب اليمني والمدنيين جريمة أخرى يجب منعها»، على الرغم من تنصله من أذرعه ووكلائه بوصفه إياهم «قوى مستقلة تدافع عن نفسها». وقبله رد قائد «الحرس الثوري» حسين سلامه على تحميل أمريكا إيران المسؤولية عن تسليح الحوثيين وهجماتهم بالقول: «إن جماعة الحوثي مستقلة وتتخذ قراراتها الاستراتيجية والعملياتية بنفسها».
في واقع الحال، لن يُسلِّم خامنئي بسهولة للضغوط الأمريكية.- استهداف تل أبيب
معالم التصعيد العسكري واضحة في عودة الحوثيين إلى استهداف تل أبيب، وإلى استهداف القطع البحرية الأمريكية في المنطقة، وآخرها ما أعلنه «الحوثي» عن استهداف حاملة الطائرات «يو. إس. إس. هاري ترومان» والقطع الحربية التابعة لها شمال البحر الأحمر بـ18 صاروخا باليستياً ومجنحاً وطائرةً مسيرة.
يتوعد ترامب، الذي أعاد تصنيف جماعة «أنصار الله» منظمة إرهابية، بالقوة المميتة الساحقة إذا لم تتوقف عن أعمالها العدائية. يرفع الرئيس الأمريكي سقف المواجهة بنماذج من سلاح «القوة الخشنة» الممكن أن يعقب سلاح العقوبات والاقتصاد والتضييق المالي مع حظر استيراد المشتقات النفطية من ميناء الحديدة، فيما يراهن الحوثي على إطالة أمد المعركة، انطلاقاً من قناعة أولى لدى الجماعة بأنهم غير مكشوفين كما كان حال «حزب الله»، وأن أمريكا وحلفاءها من الغرب ودول الجوار وإسرائيل يواجهون «عتمة استخباراتية» في التعامل مع الحوثي، فضلاً عن أن الطبيعة الجغرافية لليمن هي عامل لصالح الحوثي وليس لصالح الأمريكيين.
أما القناعة الثانية التي ينطلقون منها فتكمن في أن الضربات الجوية الأمريكية، على رغم تطورها، لا يمكنها أن تكون عاملاً حاسماً من دون تدخل على الأرض.
بالتأكيد لن يُرسل ترامب جنوداً أمريكيين إلى الوحول اليمنية، ما يجعل اللجوء إلى الجيش اليمني التابع للشرعية احتمالاً ممكناً لإسقاط سيطرة الحوثي على العاصمة صنعاء والمحافظات التي بعهدته، لكنه لم يَظهر، حتى الساعة، أي رغبة أمريكية للذهاب في هذا الاتجاه، لا بل أن تصريحات واشنطن تُشير إلى أنها غير معنية بتوازنات الداخل اليمني وتغيير المعادلات فيه، وإنْ كانت الشرعية اليمنية ترى أن الفرصة سانحة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لتحرير اليمن من سطوة تلك الجماعة التي تُكمل بتهورها وأجندتها تدمير ما تبقّى من مقدرات البلاد، وتزيد من معاناة الشعب اليمني.
والنقطة الأهم في رهانات الحوثي تنطلق من أن دول الجوار، وفي مقدمتها السعودية، تنتهج سياسة النأي بالنفس عما يجري من مواجهة أمريكية – إيرانية على أرض اليمن. صحيح أن المملكة قادت عملية «عاصفة الحزم» ضمن تحالف دعم الشرعية اليمنية عام 2015، واستمرت الحرب لسنوات ثمانٍ، قبل التوصل إلى وقف لإطلاق نار لعبت سلطنة عُمان دوراً فيه، لكنها انخرطت في مبادرة سياسية بين الأطراف اليمينة للولوج إلى حل سلمي، وهي تريد ضمان استقرار بلادها في ظل طموحاتها ومشاريعها التنموية والاقتصادية والتي تُجسِّدها «رؤية 2030».
يمنح ترامب المرشد الإيراني مدة شهرين للتوصل إلى اتفاق نووي جديد. ويبقي خلالها الضغط لإضعاف طهران أكثر في الساحات التي مدَّت نفوذها إليها. فَـتَحَ إصرار «الحوثي» على مواصلة عملياته ضد السفن المتجهة إلى إسرائيل ومعاودة استهداف تل أبيب الباب واسعاً أمام نتنياهو، الذي لا يحتاج أصلاً إلى ذريعة، للعودة مجدداً إلى الحرب في قطاع غزة وتوسيع عملياته في الضفة الغربية، والإعلان عن المشاركة في العمليات الجوية مع أمريكا ضد اليمن، وفَتَح الباب أيضاً أمام عودة الضغط العسكري – الأمني على لبنان بشكل أكبر، وليس أكيداً أن ميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق ستبقى بمنأى عن الاستهداف.
ثمة ما هو مؤكد أن ربيع 2025 سيشهد عواصف كثيرة، وستعمد كل من أمريكا وإيران إلى اللعب على حافة الهاوية. سيكون الجميع في مأزق، فالتراجع ما عاد ممكناً من دون خسارة أحد الطرفين، وزمن الحلول الوسط قد يكون بعيداً وربما ولّى.
القدس العربي