> د. نجلاء سعد البحيري:
يشهد الشرق الأوسط اليوم مرحلة مفصلية من التحولات الجيوسياسية والميدانية، جاءت نتيجة مباشرة للحرب غير المسبوقة التي اندلعت بين إيران وإسرائيل في ربيع عام 2025. وقد مثّلت هذه المواجهة تطورًا نوعيًا، كونها أول صدام عسكري مباشر بين قوتين إقليميتين طالما اعتمدتا على أدوات غير مباشرة كالوكلاء الإقليميين والتصعيد غير المباشر. إلا أن نتائج هذه الحرب تجاوزت حجم الخسائر المادية والبشرية، لتُحدث تحولًا عميقًا في تركيبة العلاقات الإقليمية وتوزيع الأدوار والنفوذ.
في هذا المقال، نستعرض أبرز ملامح "الشرق الأوسط الجديد" كما بدأت تتبلور بعد توقف إطلاق النار بين الجانبين.
في المقابل، واجهت إيران تحديات كبيرة على مستوى البنية التحتية الدفاعية، وتعرضت بعض منشآتها الحيوية لأضرار جسيمة. ومع ذلك، فإن طهران أثبتت في المقابل قدرتها على امتصاص الصدمة، وإدارة الأزمة ضمن حدود مدروسة حالت دون اتساع رقعة المواجهة، وهو ما يُحسب لها في إطار توازن الردع الاستراتيجي.
أما "محور المقاومة" الذي تقوده إيران ويمتد عبر عدد من الساحات الإقليمية، فقد شهد بعض التراجعات، سواء على مستوى الزخم أو التنسيق، لأسباب تتعلق بالضغوط الميدانية والظروف الداخلية في كل ساحة على حدة، وليس بالضرورة لانهيار في المشروع الإقليمي.
في لبنان، اتبع حزب الله سياسة تدخل محدودة جغرافياً، مدفوعة بواقع اقتصادي صعب وضغوط داخلية متزايدة. وفي قطاع غزة، حافظت حركة حماس على موقف متوازن حيال الصراع، متجنّبة الانجرار إلى مواجهة مفتوحة قد تكلّفها الكثير على المستوى الشعبي والسياسي.
أما في العراق واليمن، فقد بدا أن بعض الفصائل المرتبطة بمحور المقاومة تبنّت مقاربات محسوبة، تأثرت بعوامل داخلية مثل التوازنات السياسية والاقتصادية، وهو ما يشير إلى مرحلة جديدة من إعادة التموقع وفق حسابات المصلحة الوطنية.
وقد مكّنتها سياساتهما المتوازنة من المضي قدمًا في مشاريع طموح مثل "نيوم" ومبادرة "دبي الخضراء"، والانفتاح على التكتلات الاقتصادية الآسيوية كمنظمة شنغهاي والبريكس. كما أن مبادرات الوساطة الدبلوماسية التي تبنتها بين أطراف النزاع الإقليمي، أظهرت استعدادها للعب دور محوري في بلورة ترتيبات أمنية جديدة قائمة على الحوار وتبادل المصالح.
وقد سارعت الولايات المتحدة والدول الخليجية إلى طمأنة الأسواق عبر رسائل سياسية وأمنية واضحة، في حين كثف الاتحاد الأوروبي من جهود تنويع مصادره عبر الاستثمارات في الطاقة المتجددة، الأمر الذي قد يعيد رسم خريطة النفوذ المرتبطة بالموارد في المستقبل القريب.
في المقابل، فضّلت الصين انتهاج سياسة الحياد النشط، داعية إلى تهدئة شاملة، مع تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع إيران، لا سيما في قطاعي الطاقة والبنية التحتية. ويبدو أن بكين تسعى إلى الحفاظ على توازن مع طهران يُمكّنها من لعب دور سياسي مستقبلي دون تعريض مصالحها مع الغرب للخطر
أما روسيا، ورغم انشغالها بالأزمة الأوكرانية، فقد اتبعت سياسة متوازنة تجاه إيران، داعمةً لها سياسيًا دون الانخراط المباشر. ويعكس هذا التوجه مقاربة براجماتية تسعى للحفاظ على الشراكات الإقليمية من جهة، وعدم توسيع رقعة التوترات من جهة أخرى.
تشير المعطيات إلى محادثات غير معلنة بين طهران ودول أوروبية بشأن إحياء الاتفاق النووي، إضافة إلى محاولات سعودية وعُمانية للوساطة بين واشنطن وطهران في ملفات إقليمية حساسة مثل اليمن ولبنان. ومع ذلك، تبقى هذه المبادرات رهينة التطورات الداخلية في إيران، التي تمر بمرحلة دقيقة اقتصاديًا واجتماعيًا.
أولًا- عودة إيران لتفعيل بعض أوراقها الإقليمية بهدف استعادة التوازن دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة، خاصة في حال استمرار التحديات الداخلية.
ثانيًا- توافق دولي وإقليمي على تسوية شاملة تبدأ بعودة إيران إلى الاتفاق النووي مقابل رفع جزئي للعقوبات، وهي تسوية تتطلب مرونة من جميع الأطراف.
ثالثًا- انزلاق غير مقصود إلى جولة جديدة من التصعيد نتيجة خطأ حسابي أو استفزاز ميداني، وهي فرضية تبقى واردة في ظل هشاشة وقف إطلاق النار.
تسعى إسرائيل إلى توظيف تفوقها في فرض معادلات سياسية جديدة، بينما تسعى إيران لإعادة بناء موقعها عبر وسائل متنوعة، في حين تبرز دول الخليج كمراكز استقرار ونفوذ ناعم. أما القوى الدولية، فهي تمارس أدوارًا مركبة ما بين دعم الحلفاء وتقييد التصعيد وتوجيه المسارات.
وبين كل هذه المعادلات، يتبلور "شرق أوسط جديد" لا تُرسم ملامحه فقط بالقوة، بل بالتحولات الاقتصادية والدبلوماسية وتوازنات المصالح، ما يجعله أكثر تعقيدًا، لكنه أيضًا أكثر قابلية لإنتاج فرص سلام مشروط بالواقعية والعقلانية السياسية.
* باحثة في الشؤون الإقليمية، مدرس بجامعة قناة السويس
"مجلة السياسية الدولية"
في هذا المقال، نستعرض أبرز ملامح "الشرق الأوسط الجديد" كما بدأت تتبلور بعد توقف إطلاق النار بين الجانبين.
- تحولات التوازن الإقليمي.. قراءة في خرائط القوة
في المقابل، واجهت إيران تحديات كبيرة على مستوى البنية التحتية الدفاعية، وتعرضت بعض منشآتها الحيوية لأضرار جسيمة. ومع ذلك، فإن طهران أثبتت في المقابل قدرتها على امتصاص الصدمة، وإدارة الأزمة ضمن حدود مدروسة حالت دون اتساع رقعة المواجهة، وهو ما يُحسب لها في إطار توازن الردع الاستراتيجي.
أما "محور المقاومة" الذي تقوده إيران ويمتد عبر عدد من الساحات الإقليمية، فقد شهد بعض التراجعات، سواء على مستوى الزخم أو التنسيق، لأسباب تتعلق بالضغوط الميدانية والظروف الداخلية في كل ساحة على حدة، وليس بالضرورة لانهيار في المشروع الإقليمي.
- الفاعلون غير الدوليين.. بين الضغوط وإعادة التقييم
في لبنان، اتبع حزب الله سياسة تدخل محدودة جغرافياً، مدفوعة بواقع اقتصادي صعب وضغوط داخلية متزايدة. وفي قطاع غزة، حافظت حركة حماس على موقف متوازن حيال الصراع، متجنّبة الانجرار إلى مواجهة مفتوحة قد تكلّفها الكثير على المستوى الشعبي والسياسي.
أما في العراق واليمن، فقد بدا أن بعض الفصائل المرتبطة بمحور المقاومة تبنّت مقاربات محسوبة، تأثرت بعوامل داخلية مثل التوازنات السياسية والاقتصادية، وهو ما يشير إلى مرحلة جديدة من إعادة التموقع وفق حسابات المصلحة الوطنية.
- الخليج العربي.. استثمار في الاستقرار والتكامل الاقتصادي
وقد مكّنتها سياساتهما المتوازنة من المضي قدمًا في مشاريع طموح مثل "نيوم" ومبادرة "دبي الخضراء"، والانفتاح على التكتلات الاقتصادية الآسيوية كمنظمة شنغهاي والبريكس. كما أن مبادرات الوساطة الدبلوماسية التي تبنتها بين أطراف النزاع الإقليمي، أظهرت استعدادها للعب دور محوري في بلورة ترتيبات أمنية جديدة قائمة على الحوار وتبادل المصالح.
- أسواق الطاقة والتحدي الاستراتيجي في مضيق هرمز
وقد سارعت الولايات المتحدة والدول الخليجية إلى طمأنة الأسواق عبر رسائل سياسية وأمنية واضحة، في حين كثف الاتحاد الأوروبي من جهود تنويع مصادره عبر الاستثمارات في الطاقة المتجددة، الأمر الذي قد يعيد رسم خريطة النفوذ المرتبطة بالموارد في المستقبل القريب.
- القوى الكبرى.. بين التدخل والتريث
في المقابل، فضّلت الصين انتهاج سياسة الحياد النشط، داعية إلى تهدئة شاملة، مع تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع إيران، لا سيما في قطاعي الطاقة والبنية التحتية. ويبدو أن بكين تسعى إلى الحفاظ على توازن مع طهران يُمكّنها من لعب دور سياسي مستقبلي دون تعريض مصالحها مع الغرب للخطر
أما روسيا، ورغم انشغالها بالأزمة الأوكرانية، فقد اتبعت سياسة متوازنة تجاه إيران، داعمةً لها سياسيًا دون الانخراط المباشر. ويعكس هذا التوجه مقاربة براجماتية تسعى للحفاظ على الشراكات الإقليمية من جهة، وعدم توسيع رقعة التوترات من جهة أخرى.
- آفاق الدبلوماسية.. استثمار الهدنة نحو حلول مستدامة
تشير المعطيات إلى محادثات غير معلنة بين طهران ودول أوروبية بشأن إحياء الاتفاق النووي، إضافة إلى محاولات سعودية وعُمانية للوساطة بين واشنطن وطهران في ملفات إقليمية حساسة مثل اليمن ولبنان. ومع ذلك، تبقى هذه المبادرات رهينة التطورات الداخلية في إيران، التي تمر بمرحلة دقيقة اقتصاديًا واجتماعيًا.
- السيناريوهات المستقبلية.. ما بعد الدخان
أولًا- عودة إيران لتفعيل بعض أوراقها الإقليمية بهدف استعادة التوازن دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة، خاصة في حال استمرار التحديات الداخلية.
ثانيًا- توافق دولي وإقليمي على تسوية شاملة تبدأ بعودة إيران إلى الاتفاق النووي مقابل رفع جزئي للعقوبات، وهي تسوية تتطلب مرونة من جميع الأطراف.
ثالثًا- انزلاق غير مقصود إلى جولة جديدة من التصعيد نتيجة خطأ حسابي أو استفزاز ميداني، وهي فرضية تبقى واردة في ظل هشاشة وقف إطلاق النار.
- الشرق الأوسط بين فرص الاستقرار ومخاطر الانزلاق
تسعى إسرائيل إلى توظيف تفوقها في فرض معادلات سياسية جديدة، بينما تسعى إيران لإعادة بناء موقعها عبر وسائل متنوعة، في حين تبرز دول الخليج كمراكز استقرار ونفوذ ناعم. أما القوى الدولية، فهي تمارس أدوارًا مركبة ما بين دعم الحلفاء وتقييد التصعيد وتوجيه المسارات.
وبين كل هذه المعادلات، يتبلور "شرق أوسط جديد" لا تُرسم ملامحه فقط بالقوة، بل بالتحولات الاقتصادية والدبلوماسية وتوازنات المصالح، ما يجعله أكثر تعقيدًا، لكنه أيضًا أكثر قابلية لإنتاج فرص سلام مشروط بالواقعية والعقلانية السياسية.
* باحثة في الشؤون الإقليمية، مدرس بجامعة قناة السويس
"مجلة السياسية الدولية"