أخر تحديث للموقع
اليوم - الساعة 04:00 ص بتوقيت مدينة عدن

مقالات الرأي

  • صناعة العملاء: أدوات الاستعمار في العصر الحديث

    حافظ الشجيفي




    لطالما ارتبط مفهوم الاستعمار في الذاكرة الجمعية للشعوب بصور الجيوش الغازية، والموانئ المحتلة، ونهب الثروات الطبيعية بشكل مباشر فقد كان استعمارًا عسكريًّا واقتصاديًّا بامتياز، يفرض وجوده بقوة السلاح ويستنزف الموارد بوضوح. لكن صفحات التاريخ الحديث، خاصة في منطقتنا العربية والإسلامية، تكشف عن تحول جذري في طبيعة هذا الوباء السياسي. حيث تخلّى الاستعمار عن ثوبه العسكري الصارخ، وتوارى خلف أقنعة جديدة، ليصبح استعماراً سياسياً في جوهره، ومن خلاله فقط يتحقق الاستعمار الاقتصادي، الذي لم يعد غاية في حد ذاته بقدر ما هو وسيلة لترسيخ الهيمنة المطلقة والسيطرة الشاملة على الشعوب.

    إن جوهر هذا الاستعمار السياسي يكمن في براعة القوى الاستعمارية بتغيير أدواتها من الاحتلال العسكري المباشر إلى التغلغل العميق في بنية الدول والمجتمعات ولم تعد القوى الخارجية بحاجة إلى إرسال جنودها أو فرض حكامها بشكل مباشر، بل أصبحت تعتمد كلياً على "عملائها" من داخل النسيج الاجتماعي والسياسي للشعوب المستهدفة ذاتها على نحو يضمن استمرار الهيمنة بتكلفة أقل ومخاطر أدنى، فيما توفر غطاءً من "الشرعية المحلية" التي تضلل الرأي العام وتصعب من مهمة المقاومة.

    ليس اختيار هؤلاء العملاء عشوائياً، بل هو عملية دقيقة ومحسوبة. فالقوى الاستعمارية لا تبحث عن الكفاءات أو الوطنيين الأكفاء، بل على العكس تماماً، تتوجه بوصلتها نحو الفئات الأكثر ضعفاً وهشاشة في المجتمعات. إنهم "المنبوذون" الذين لم يجدوا لأنفسهم موطئ قدم طبيعي في سُلّم الارتقاء الاجتماعي أو السياسي، "والأدنياء" الذين تفتقر شخصياتهم للاستقلالية والنزاهة، و"الأغبياء" الذين ليس لهم اثر في المجتمع ولا يفكرون خارج إطار المصالح الضيقة. هؤلاء هم من لم يكونوا يحلموا يوماً بالوصول إلى مراكز السلطة العليا، بل ربما لم يتجاوز سقف طموحهم منصب رئيس قسم في مرفق حكومي بسيط. هذا الاختيار ليس انتقاصاً منهم بقدر ما هو إدراك لقابليتهم المطلقة للتحكم، فهم بلا قاعدة شعبية حقيقية أو عمق وطني أو رؤية سياسية، وبالتالي يصبح ولاؤهم المطلق للقوى التي رفعتهم هو السبيل الوحيد لبقائهم.

    وبمجرد تحديد هؤلاء الأفراد، تبدأ آلة الدعم الاستعماري بالعمل بكامل طاقتها. حيث يُغدق عليهم الدعم المادي السخي الذي يحولهم إلى قوى اقتصادية لا تُقهر محلياً، ويُقدم لهم الدعم العسكري لتعزيز قبضتهم الأمنية والعسكرية على الدولة، ويُمنحون الغطاء السياسي الذي يضفي عليهم شرعية زائفة أمام شعوبهم، ويُسخر لهم الإعلام بكل أشكاله لتلميع صورتهم وتضخيم إنجازاتهم المزعومة، وتحويلهم في وعي الجماهير المغيبة إلى "زعماء وقادة عظماء". هذا الدعم الشامل يُمكنهم من الوصول إلى سدة الحكم، ويضمن لهم الحماية من أي محاولة لخلعهم أو محاسبتهم، ويُكرسهم كأدوات طيعة تنفذ الأجندات الخارجية بحذافيرها.

    المقابل لهذا الدعم غير المحدود هو ولاء مطلق وطاعة عمياء. لا مجال للاعتراض أو النقاش أو حتى إبداء الرأي فيها فالأوامر تُنفذ "حرفياً" ودون أي تردد، حتى لو تعارضت مع مصالح الأمة العليا أو أدت إلى تدمير مقدراتها. هذا الارتهان لا يقتصر على رؤساء الدول فحسب، بل يمتد ليشمل قادة الأحزاب السياسية، والمكونات الاجتماعية، ومنظمات المجتمع المدني فهؤلاء أيضاً يُتم اختيارهم ودعمهم بنفس الطريقة، ويصلون إلى مستويات التأثير بفضل القوى الخارجية. ويلعبون أدواراً مختلفة أمام الشعوب – أحياناً كمعارضة، وأحياناً كموالاة واحيانا كخصوم – لكنهم في حقيقة الأمر جميعًا يخدمون نفس الأجندة الخارجية، ويساهمون في إحكام قبضة الهيمنة على مقدرات الشعوب والسيطرة على الجماهير وتوجيهها.

    وفي مقابل هذا المشهد المظلم، يقف "الرجال الوطنيون والمخلصون المستقلون" الذين يرفضون التبعية والارتهان. باعتبارهم النقيض التام للعملاء، فهم يمتلكون النزاهة والكفاءة والولاء الأصيل لأوطانهم. لكن هؤلاء يُصبحون العقبة الكبرى أمام المخططات الاستعمارية، وبالتالي يتم تهميشهم بكل الطرق، ومحاربتهم إعلامياً وسياسياً واقتصادياً، أو حتى التخلص منهم جسديًّا عبر أولئك العملاء الذين يُستخدمون كأدوات لتصفية الحسابات الداخلية لصالح القوى الخارجية.

    هذا هو المشهد الذي يتجلى بوضوح في العديد من بلداننا العربية والإسلامية. حيث أصبح الاستعمار كياناً خفياً، لا يحتل الأرض بالدبابات، بل يحتل العقول والقرار من خلال وكلاء محليين. إنه استعمار يفتت النسيج الاجتماعي، ويُفسد الحياة السياسية، ويُشوه مفهوم القيادة، ويُضعف الدول من الداخل، ويُبقيها رهينة لأجندات لا تخدم إلا مصالح القوى المهيمنة.

    إن فهم هذه الحقيقة العارية، دون مواربة أو تضليل، هو الخطوة الأولى نحو التحرر الحقيقي من هذا النمط الجديد والأكثر خطورة من الاستعمار العسكري.

المزيد من مقالات (حافظ الشجيفي)

Phone:+967-02-255170

صحيفة الأيام , الخليج الأمامي
كريتر/عدن , الجمهورية اليمنية

Email: [email protected]

ابق على اتصال