> "الأيام" غرفة الأخبار:

في زاويةٍ من ركام مخيم جباليا، خرجت صورة هزت الضمائر: رجلٌ مسن يحمل والده المسن بين ذراعيه، كلاهما سقطا ضحية لقصفٍ إسرائيليٍ لا يفرّق بين شاب وشيخ، لكن خلف هذه الصورة، تكمن حكاية يمنيٍ اسمه أحمد البدري، أبو بدر، حمل فلسطين في قلبه منذ شبابه، وظل يقاتل لأجلها حتى نال الشهادة وهو في عمر يناهز المئة وعشر سنوات.

ولد أبو بدر في محافظة حجة اليمنية عام 1914، وكان شابًا في العشرين من عمره حين قرر أن يترك بلده ليلتحق بصفوف الثوار الفلسطينيين في ثلاثينيات القرن الماضي، إبّان الثورة الكبرى. لم تكن فلسطين مسقط رأسه، لكنها كانت بوصلته. قاتل في صفوفها، وتزوج من إحدى بناتها، وعاش في قراها حتى دمرت قريته بالتطهير الصهيوني، فاضطر للنزوح إلى مخيم جباليا في قطاع غزة.

سنواته في المخيم لم تكن مجرد إقامة لاجئ، بل سيرة نضال مستمر. أنجب ثمانية أبناء وبنات، وغرس فيهم حب فلسطين كما غرسها في نفسه. شارك أبناؤه وأحفاده في مقاومة الاحتلال، حتى أصبح اسمه محفورًا في الوجدان الفلسطيني كرمز للتضحية والانتماء.

رغم أنه لم يولد في فلسطين، إلا أن ترابها كان مأواه الأخير. عاش كفلسطيني، قاتل كفلسطيني، واستشهد كواحد من أهلها. لكن ما لم يُنسَ قط، هو أن أبو بدر كان يمنيًا، ابن حجة، القادم من جبال اليمن بروح العروبة الخالصة، حين كانت فلسطين قضية أمة، لا ورقة مساومة.

ابنه محمد، الذي حمله في لحظاته الأخيرة، كان مسنًا هو الآخر. كلاهما قضى في القصف الإسرائيلي على جباليا، في مشهدٍ صامت يختزل رواية أجيال. أما الابن البكر بدر، فقد عاد إلى اليمن بعد اتفاق أوسلو، حيث احتضنته قبيلته وأعادته قانونيًا إلى هويته الأولى، لكنه بقي فلسطيني الهوى، حتى توفي في صنعاء بعد إصابة قديمة في الانتفاضة.

قصة أبو بدر هي قصة اليمني الذي لم يبحث عن وطن بديل، بل وهب عمره لفلسطين. ترك بلده طوعًا ليحيا في أرضٍ تنزف، فكان شاهدًا على نكباتها، وشهيدًا في نكبتها الثانية. واليوم، حين نرى صورته، نقرأ فيها وجه اليمن كما نقرأ وجه فلسطين – متحدين في الألم والعزة، وفي دم لا يعرف الحدود.