> علي هيثم الغريب

فتاة لبنانية تعطي الورود للجنود؟؟
إن ما يجري في لبنان، وما انعكس منه على بقية البلدان العربية وأكدته أحداث القاهرة في الوقت ذاته هو سقوط نموذج في «الحكومات العربية» سقوطا شاملا بقيمه ومؤسساته وفكره ونمط رجالاته، هذا النظام الذي قام على الجيش وعلى التفنن في بناء معسكرات الأمن والاستخبارات وعلى الهاجس التآمري والحكم القبلي الطائفي، تسيطر فيه السلطة العربية على كل مفاصل المجتمع بعزل الأكثرية المعارضة عن السياسة والحكم وأموال الأمة، وتتحكم في رقاب الشعب بيروقراطية فاسدة وعاجزة، كل همها تحويل ثمن الثروة إلى حساباتها في الخارج.
أنظمة تعيش على ثوابت ونصوص مقدسة صادرة عن قيادات تعيد انتخاب نفسها عبر صناديق الاقتراع، وهي غالبا إجماعية التصويت بالتصفيق، وحكومات تتلو كل عام تقدير ميزانيتها أمام مجالس نوابها، وتؤكد «العقود السابقة كلها»، دوما صحة وسلامة ما تقول وإذا أخطأت الحكومة فغالبا ما تحمل الذنب المعارضة.
نعم قد أسهمت المعارضة اللبنانية في نزع «الشرعية» عن الأنظمة العربية، خاصة في ضوء الإعلان السوري بالعزم عن سحب كامل قواته المسلحة الموجودة في لبنان. على أن الحدث اللبناني سيتيح لقمة مارس العربية أن تسمي الأشياء بأسمائها بلا مكابرة أو خطابات كاذبة، والتدخل الخارجي ليس بحجة ولا هو بعذر، بل يكاد ينطبق على بعض الحكومات العربية التي يعرف القاصي والداني أنها تعيش تحت رحمة «أخوات الصهيونية» بينما هي يوميا تنتقد الصهيونية الدولية وإسرائيل.
حكومات تستورد من الغرب أدوات التعذيب والتجسس وتنظيم الجيش والاستخبارات وغيرها من تقنيات الرفاهية والفناء والقمع، وعندما نشاهد لبنان اليوم نقول بأي نفاق طبلت المعارضة العربية لحكوماتها، وزمرت للحريات الديمقراطية دون أن تعير انتباها لكونها شبه معدومة، والدليل على ذلك تلك الحكومات التي سقطت وهي لا تستحق إلا أن نهيل عليها التراب بلا رحمة اللهم إلا على أنفسنا. ولكننا سنظل ننبه أن لبنان شأنه شأن أي بلد عربي آخر ينتظر الفرج وقد وضعت المعارضة على «السكة» حل مأزقه مع الحكومة وسوريا، وهذا مطلب لبناني عربي، قبل أن يكون دوليا، ولكنه لازال بعيدا عن حل أزمته الوطنية الداخلية بكل ما لهذه الكلمة من معنى حيث يتوجب على المعارضة اللبنانية أن تستمر بتقديم الورود للأمن والجيش لكسب تعاطفهم، وأن تتعايش مع معضلتها بعد «النجاح» في تخفيف طابعها الانفجاري على الصعيدين الأمني والسياسي والوطني، وأن تتصدى لمنطق الفرز الطائفي الديمغرافي السائد، الذي عمقته الأنظمة السابقة على اتفاق الطائف، وعليها أن تستفيد من المعارضة اليمنية التي كشفت بعد حرب 94م، كيف أن كثيراً من المعارضين داخل الحزب الاشتراكي الذين رفضوا تبني قضايا أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية كانوا المتضررين الأبرز من معالجة آثار الحرب ومن عودة الشرعية للوحدة، وساروا يلعبون الدور الذي يجيدونه أكثر من سواهم كأبطال من أبطال الوحدة والديمقراطية.
لقد تعايشت بعض الأنظمة العربية مع الحروب الأهلية وقمع المعارضين ومطاردة الكتاب وتعذيب الصحفيين الشرفاء، فماذا «دهاها»، اليوم حتى تنادي بالإصلاح الديمقراطي؟ إن ما «دهاها» هو حاجتها إلى البقاء على كراسي الحكم لا إلى حل للأزمات المتفاقمة يساعدها في ذلك الموقف الأمريكي المشوب بالشك حيث يتصرف البيت الأبيض باستمرار على خطين: خط التأييد للإصلاحات التي لا تضر مصالحه، وخط العمل على تحضير معارضة لا تحظى باحترام شعوبها.. علاوة على أنه ولفترات تاريخية طويلة ظهر الموقف الأمريكي شديد الإنحياز إلى جانب إسرائيل وأعتقد أن المسؤولين الأمريكيين ينطلقون في سياستهم هذه من ثلاثة عوامل هي :
1- حولت موضوع الإصلاح في الشرق الأوسط، وإلى حد كبير إلى قضية أمريكية داخلية بحيث يعتمد التدخل من عدمه على موقف الأنظمة من القضية الفلسطينية. 2- لم تنجح أمريكا في أن تستعيد ثقة الشعوب العربية المقهورة بها ونسفت الجسور بالكامل مع المعارضة العربية في الداخل، وهي بذلك تثأر للأنظمة أكثر مما تثأر للشعوب. 3- لا تمتلك الولايات المتحدة موقفا عاقلا وعادلا حيال الأزمة السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط، ولهذا لم تتوفر لها تغطية إعلامية معقولة لموقفها الذي تريده.
إذن لقد أثبتت المعارضة اللبنانية أن المشكلة ليست في التدخلات الخارجية (الوصفه الجاهزة) إنها في نوعية القوى الداخلية التي تتبنى برامج الإصلاح، المأزوفة بأزمة الأنظمة .. لأن المعارضة الجادة مقيدة تماما من قبل السلطة من جهة وبعض أحزاب المعارضة المحكومة بثنائية قاتلة بين ادعائها تمثيل خط تجديد وتطوير الأنظمة وعمل تشريعات تحمي حقوق الإنسان وبين مصالح النخبة القيادية فيها من جهة ثانية، وكانت هذه الثنائية تحل دائما لصالح الجماعات الحاكمة في المعارضة والسلطة، الذين شيدوا معا الأنظمة غير الديمقراطية ولطخوا بالعار تاريخ العرب المشرق وجعلوا منا رهائن للغرب.
والحق يقال إن المعارضة اللبنانية قد وصفت هذه الاتجاهات، وهي الآن تسير نحو التوازن الوطني وليس الطائفي، وخرجت من النظام الطائفي نحو رؤية وطنية ديمقراطية شاملة، وأدرك وليد جنبلاط وغيره من أمراء الطوائف أن الطائفية لن تقدم له في التسوية السياسية، أكثر من حصتها التقليدية السابقة في السلطة، التي أقرت في اتفاق الطائف وهي تأتي في المرتبة الخامسة أو الرابعة بين الطوائف اللبنانية من حيث العدد، وهو يعرف أن لعب الطائفية لن تجدي إلا بين الطوائف الثلاث الرئيسية (الموارنة، الشيعة والسنة) وأن أي تعديل في موازن القوى الطائفية لن يطال طائفته. فبعد سنوات خبر اللبنانيون، كل في منطقته، حكم الطوائف العدائي وانكشفت حقيقتها، وتأكد لهم أن الطوائف لا وحدة ممكنة لها.. فإذا كان اليمن بعد الحرب قد تفتت قبليا وعسكريا فإن لبنان بعد الحرب قد اتففت طائفيا وعسكريا .. وأعلن فيهما نتائج هيمنة سلطات الامر الواقع وإسداء الضربة لما تبقى من ملحمة وطنية وأُحرق المشروع التوحيدي.
فصار مصطلح «الوحدة» في لبنان واليمن استعارة داخلية تستخدمها مجاميع فقدت القدرة على مجرد تصور ما يتعدى مصالح أمراء الفيد والفتنة. فهذه المجاميع القبلية في اليمن والطائفية في لبنان اختزلت برامجها إلى تحسين مواقعها في تركيبة السلطة والثروة، هذا إذا لم نقل المحافظة على نظام التمزق والعداء الذي هو مصدر ثرواتها وسلطاتها، وكان الخاسر الأكبر في هذا كله الوحدويون الحقيقيون. فمتى ستقدم المعارضة اليمنية الورود للجيش اليمني كما قدمته المعارضة اللبنانية ومتى ستنكس فوهات بنادق الأمن كما نكست فوهات بنادق الجيش اللبناني البطل الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه.