> «الأيام» محمد حمود أحمد :

وواصل الإعلامي القدير عبدالحميد سلام حديث الذكريات قائلا:كان لطفي أمان شخصية متعددة الجوانب والاهتمامات، كان رجل إعلام، رجل ثقافة وصاحب ذائقة فنية لا يعلى عليها، كان فناناً ويحب الآخرين ويتمتع بمزايا عديدة كنا نكبره، ونحترم آراءه في شؤون واختصاصات عديدة، إذا استشرناه في شيء لا يخيب رجاءنا، ولطفي كان في مقدمة الشعراء المجيدين. أما محمد عبده غانم فقد كان ثروة لا تقدر بثمن وكان أستاذا للطفي، وقدم لديوانه الأول وشجعه وتنبأ له بمستقبل باهر وهكذا كان. وعند ما كتب محمد عبده غانم كتابه حول الغناء الصنعاني كنت من أشد المعجبين به لأنني أحب تذوق الغناء الصنعاني. المهم أن يكون المغني يؤدي الغناء الصنعاني بطريقة صحيحة عزفاً وأداءً.

الانتقال إلى قسم الموسيقى
على ذكر ذلك، كان في الإذاعة المصرية الأستاذ محمد حسن الشجاعي، ولا يستطيع أحد أن يدخل باب الإذاعة المصرية الإ على أسس ومقاييس دقيقة، وقد جاؤوا بفتاة «من طب الازهر» تمتلك صوتاً جميلاً وأخذوا رأي عبدالوهاب في صوتها، فقال: جريئة .. جريئة!

فمن كان يمكن أن يخالف رأي عبدالوهاب، كنا أنا ولطفي «مجنونين» به وأحسن أن محمد عبدالوهاب مات قبل أن يسمع سموم هذه الأيام!!

انتقلت إلى قسم الموسيقى، وكنت أحمل على كاهلي عبء رسالة كبيرة ومهمة عظيمة تجاه الفن والموسيقى، وفي رأسي أفكار ومشاريع. وقد أتعبني الفنانون وتعبت معهم. ولكن كان هناك شعراء كبار يعتد بهم وتعتمد عليهم حركة الفن في تطورها الخلاق: لطفي أمان، محمد عبده غانم، صالح مهدي وغيرهم، كانوا يقدمون للحركة الفنية ويرفدون الفنانين بكل جميل، وكان الفن والغناء يتجدد وكل يوم نستمع إلى الجديد الأجمل.

لجنة تقصي الحقائق وإضراب الإذاعة
أضربنا عام 1967م، وأوقفنا الإذاعة، أضربنا نحن المذيعين وأوقفنا البث الإذاعي، عندما جاءت لجنة تقصي الحقائق، فوصل الأمر برد فعل السلطات الاستعمارية إلى حد فرض حظر التجول خوفاً من الغليان الشعبي. وفي ظل هذا الوضع كان اختياري لأصعب البرامج الإذاعية، ففي تلك الفترة كانت أصعب البرامج هي إجراء اللقاءات مع الناس، وقد كنت أقدم برنامج «جولة المايكرفون» وأتجول في هذا الظرف الصعب. وأذكر أنني كنت أعمل على «كلثمة» أذواق المستمعين والترويج للفن الراقي لأم كلثوم، وكنا ندفع المستمع إلى اختيار أجمل أغانيها لتبث عبر الإذاعة، بالإضافة إلى أنني كنت اهتم كذلك بإرضاءً ومراعاة الذوق العام وميول الناس الى سماع الأغاني الهندية.

وكان لي في ذلك معجبون ومناصرون حتى أن الجالية المقيمة من الهنود كانوا يسمونني إعجاباً واعتزازاً: بـ «عبدالحميد بهاي سلامشي!».

لجنة الاستماع و العلاقة مع كبارالفنانين
في قسم الموسيقى كانت هناك لجنة استماع، وهذه اللجنة هي التي تقرر صلاحية الكلمات من عدمها، وأذكر أن أغنية لطفي أمان التي غناها عبدالرحمن باجنيد «طير من وادي تبن» وقع عليها خلاف، وفسروها تفسيراً خاطئاً أو مغلوطاً حتى أن مسرور مبروك كتب أغنية أخرى وكأنه يرد على أغنية لطفي. وهناك أغنية أخرى لمحمد سعد الصنعاني ثارحولها خلاف، وكانت تفسر بعض الأغنيات عند صدورها، ولكن سرعان ما تهدأ الزوابع وتنتشر الأغاني . محمد سعد الصنعاني كان فناناً عظيماً وموسيقاراً يكتب النوته ويعزف على مستوى رفيع من الإتقان، وله روائع.

لا يمكن أن تنسى له « بو العيون السود» التي غناها عبدالكريم توفيق. كان الصنعاني رساماً يرسم النوتة بدقة متناهية. أما فضل اللحجي فكان عازف عود من الدرجة الأولى، وقد أذهل فناننا أحمد قاسم بعزفه المتقن. وقد علق أحمد قاسم قائلاً: «كيف إذا درس اللحجي علوم الموسيقى، إنه عبقري لا يبارى في روعة موسيقاه!».

إنه عملاق يعزف العود وله الحان رائعة : لو عتي، يا قلبي الجريح وغيرها. إنما هو يمارس الخلق الموسيقي على طريقته. القمندان من أروع المبدعين ومن الإجحاف أن لا نعمل له تمثالاً رائعاً لمكانته الفنية الكبيرة. وكذلك عبدالله هادي سبيت الذي عايشته فناناً وشاعراً مجيداً ووطنياً غيوراً، استطاع أن يحرك بقصائده وأشعاره الشعور الوطني للنضال ضد المستعمرين، عشت معه، عاصرت أحمد قاسم.. خطوة .. خطوة في طريقه ونجاحاته وهو يستحق حديثاً مستقلاً بذاته ولذاته. وأذكر أنني كنت قاسياً عليه عندما منعته من دخول «الإستديو»، عندما جاء للتسجيل «بناقص عازف كمان واحد» ولكنه قدر هذا الموقف .. من حيث المبدأ! أما الآن فكل من جاء «يطنطن» بالعود.. ولا أحد يقول له من أنت!

لجنة الاستماع
كان لدينا فيها يحىى مكي موسيقار الأجيال ، وهو أستاذ لأحمد قاسم، وغنى له فنانون كبار محمد سعد عبدالله، أحمد ناجي قاسم، نبيهه عزيم. وعزيم سعيد عزيم، كان من أكبر مشجعي الفن ومنزله كان مفتوحاً لجميع الفنانين.

أقول لجنة الاستماع كان فيها دارسون للموسيقى وشعراء ومثقفون كبار، كان عدد أعضاء اللجنة بين 7 إلى 8 أعضاء وفيها فنانون درجة ممتازة أحمد قاسم، محمد مرشد ناجي، محمد سعد عبدالله، سالم بامدهف، إسكندر ثابت، يحىى مكي، خليل محمد خليل، وهؤلاء كانوا يعشقون الفن للفن ويخلصون له، ومن لحج كان هناك فنانون درجة ممتازة كمحمد سعد صنعاني وفضل اللحجي، وعبدالله هادي وغيرهم.

المايسترو الإنجليزي.. وثقافة يحىى مكي الموسيقية
كان يحيى مكي يكتب النوته الموسيقية، وأذكر إننا سجلنا بالنوته موسيقى السلام الوطني في الستينات، وكذلك عدداً من الأناشيد الوطنية، والسلام الاتحادي بفرقة جمعة خان .

وأذكر أن ما يسترو إنجليزي سألني ذات مرة «هل عندكم من يكتب النوته الموسيقية؟! فقلت له نعم، وذهبنا إلى يحيى مكي.. واكتشفنا أن ثقافة يحىى مكي الموسيقي عالية جداً، وقد بهر بذلك المايسترو الإنجليزي! كان رجلاً خجولاً، علم الناس الموسيقى ورعى أجيالاً من الموسيقيين، علم الآخرين كيف يكتبون بالنوتة، وإذا جئت إلى المرشدي فبعبقريته استطاع أن يجعل الناس يتذوقون الغناء الصنعاني، وأن يجذب الناس إلى الاستماع إلى الموسيقى التي يؤلف بها أغانيه.

ويتواصل حديث الذكريات الشائق للأستاذ الإعلامي عبدالحميد سلام. وإذا باتصال هاتفي من الأخ عبدالله باكداده المدير العام لمكتب الثقافة بعدن، ليعلن في هذه الأمسية الرائعة عن تكريم الأستاذ عبدالحميد سلام، في سبتمبر من هذا العام استجابة لمناشدة وجهودمنتدى (الباهيصمي) الثقافي بالمنصورة.