> «الأيام» متابعات:

منزل رئيس الوزراء عبدالقادر باجمال المبني بالمدر
الغُربة المعمارية
أهل يافع أدركوا الحقيقة المبسطة.. أدركوا أن في صرح الحصن اليافعي سراً وتعقيداً لا يدركه أو يملكه بناء الاسمنت الرخيص والتجاري. أدركوا أن الادخار في تصميم وإنشاء معاقل اسرهم والاستمرار على طبيعة وسنة اجدادهم مع التجديد كل وفق احتياجاته هو ابقاء على حضارتهم المميزة رغم الفرق في تكلفة بناء القصور والحصون الاصيلة ومباني الاسمنت الرخيصة، وحين يصل مستوى فهم المهندس المعماري المعاصر في تصميمه وتخطيطه الى درجة معلم البناء الحضري او اليافعي او أوسطا بناء صنعاء وجبلة وثلا وصعدة وزبيد ورداع وإب.. حينذاك بإمكان البديل الحقيقي أو النمط الحديث أن ينتشر.
دولة الرئيس والمدر
وإلى إن يحين ذلك الوقت فالمعلم هو الذي عليه أن يُملي على المالك كيف يبني، لأن المعلمين هؤلاء هم المدرسة التي تحفظ القواعد والأساس وتحافظ على توازن نمو المدينة، وفي هذا عبرة ولفتة معبرة في بناء رئيس وزراء اليمن الاستاذ عبدالقادر باجمال بيته في وسط بستان مريمة (ضاحية من سيئون) من الطين (المدر) على ايدي معلم البناء عبيد يعمر من تريم، وهؤلاء آل يعمر عائلة بنائين عريقة، كما يدل لقبهم، توارثوا مهنتهم بتفوق. قامت العديد من المباني والقصور الطينية على ايديهم وحين جال بي المعلم عبيد في ارجاء الدار شعرت أنه فخور بعمله لأنه عمل حديث: (قرأت ذلك من خلال صمته وهو يطوف حول الأمكنة التي رفعها) بناء حديث وشاسع بأدواره الثلاثة قائم على الاصول في تقسيمه وتخطيطه وترتيب جدرانه. ومهما تغير او تبدل في اقسامه وفروعه بقي الأصل في اللب والهيكل ترافقه وتنبثق منه النسبة والتناسب بالمساحات وعلاقتها المتناسقة : انغام متوازنة مضبوطة بوحدة متآلفة. هكذا العمارة الحقة تغني السامع عن الكلام.
لماذا قام رئيس الوزراء ببناء داره بالمدر؟ لأن قيمة مدن حضرموت وتاريخها الحضري مستمد من المدر واهل المدر، ولأن عناصر الشعر والفن والأغنية والخيال والغروب لدى اهل حضرموت يتفاعل كل منها بين الوديان والمدر، ولأن الاصل قلب الشأن ومستنده غال وثمين فيه تكمن الديمومة.. (ولأن جميع مباني الأسمنت الحديثة في الوادي دميمة المظهر مبتذلة المصدر).

د. سلمى الدملوجي مع عبيد ومحفوظ استاذي البناء بتريم
وبذلك تساهم القبة في إدخال النور الطبيعي وابقاء فكرة الصحن والفناء المفتوح كمنور. فالمدر وجدارنه السخية قابلة على حمل الاسمنت وجسور الحديد والعبرة ليست في مواد البناء بل في هندسة انشائها واستخدامها. وكما طوع آل الكاف الاسمنت والحديد لمد سقوف مجالسهم الأنيقة بنسبها المتناسقة رغم وسعها، وأخفوا جسور الحديد من خلال تغليفها ببيوت مصنوعة من قوالب المدر، توجت القبة الحديثة في دار باجمال سقف فناء الدار الوسطي دون ان تعيق تواصل وتلاعب خطوط المبنى وواجهاته أو منظوره الخارجي أو الداخلي (ولا يخفى مدى حسرتي على عدم استخدام اشكال قباب مدن الوادي تريس أو القطن او تريم أو الحوطة في استمرار وتطوير هذه القبة وتحليل اضلاعها بالزجاج المعشق بدلا عن صبها بالاسمنت).
وكم يمتلىء المرء بالاعتزاز لمشروع حضاري كهذا، وشاطرت المعلم عبيد يعمر شعوره بإنجاز هذا العمل وبنائه المتقن وكأنه نصر مشترك لي وله في زمن الحرب الخفية هذه، هي حرب استنزاف بطيئة وأليمة، حرب الغفلة والتجارة والمال على العلم والعمارة والروح وأنا لم أرد أن اكتب .. لأن الصمت يمليني والغفلة قابعة.
كل مرة أغادر فيها اليمن تعلق هناك بين طيات شغفاف القلب نبضات من الالم الخفية بوتيرة خفيفة، تارة تضمحل وتارة تعود بحدة، ويمتد قلبي لوحا لأخط عليه ما ينحدر من ملاقاة البلاد بأهلها وعمارتها، رؤية تخدّر من حدسي وتنسيني ضياعي وكأنني فقدت شيئا.. تركته هناك.
في مقيل زين القعيطي في صنعاء التفت لي رجل غريب من قرية مسجد النور وقال: منذ أن زرت يافع نشرت كتاباتك عن العمارة فيها (صحيفة «الحياة» لندن 2000م)، فإن الجميع أخذ باتباع العمارة اليافعية الاصيلة والعدول عن البناء بالاسمنت. قال لي ان وجودي هناك واهتمامي بعمارتهم جعلتهم يلتفتون إلى تقديرها وعززت من ادراكهم بأهمية الحفاظ عليها والأخذ بها. حتى أنه قال لي «إن بعض الرجال شعر بالحياء والحرج إزاء رأي «سيدة» عززت فخرهم بعمارتهم واصولها من خلال فخرها هي اولا بها» مما زاد من كبريائهم بالأخذ والتمسك بها وإثارة غيرتهم عليها.

منزل الشيخ عبدالله بقشان في شق وادي دوعن الايسر
خيلة آل بقشان
التقيت بالشيخ عبدالله بن أحمد بقشان بعد 17 عاما من زيارة ديارهم في شق وادي دوعن الأيسر والمسمى بالليسر فقط فدوعن تطلق على مدن الوادي في الشق الأيمن، وحين عرفني بنفسه على مأدبة الغذاء التي استضافها محافظ حضرموت على شرف رئيس الوزارء وأمناء جامعة حضرموت شعرت بالغبطة.. أخبرني أن ابا تركي الذي استقبلنا في دار سليمان بن سعيد بقشان توفي وكان قد أخبره عن زيارتي وعملي هناك (1988) فقلت له: «لقد انتظرت خمسة عشر عاما لأتعرف عليك».
ولأعود وارحل إلى دوعن مرة أخرى.