> سعيد عولقي:

سعيد عولقي
سعيد عولقي
التفرقة المناطقية والقبائلية والحزبية مازالت للأسف الشديد سارية المفعول في بلادنا برغم كل محاولات التعديل والتجميل التي تدخل عليها.. وهي متفشية بين بعض قيادات الأحزاب الحاكمة وقواعدها في السر أو في العلن.. وبين أوساط الكثيرين من أبناء الشعب العامل والفلاح والتاجر اللاحزبيين.. وإلى حد ما بين قيادات وقواعد أحزاب المعارضة حسب وضع كل واحد واقترابه أو ابتعاده عن مركز الجذب أو منطقة الخطر.. هذا الوضع الشائن يشمل العديد من القياديين في سدة الحكم باختلاف مراتبهم وامتيازاتهم التي تبينها حركة الصوالين والحراسات المدحجة بالسلاح التي تحف بهم.. أما الجهاز الإداري العظيم بقواه العليا والسفلى فإن هذا الوضع التشطيري الفاضح هو سمة التعامل الغالبة والغلابة التي تطبع بها نتيجة لبروفة التقسيم سيئة الذكر في بداية الوحدة.. ولا داع للاستشهاد بالمؤسسات العسكرية التي يبدو أن رواسب تلك الفترة جعلت التشطير يبدو وكأنه هو أنجيلها المقدس!

وينطبق القول على كل البلاد التي ورثت تركة التشطير والتقاسم على أساس أن يكون الكثير للأقوى على رأي المثل الذي يقول:«امسك لي با أقطع لي!» وهذا التقاسم غير المنصف قيّد الوحدة وأبقى على كثير من ملامح التخلف في الوطن وكبّله بأغلال الحرمان من التقدم إلى الأمام والتطلع إلى المستقبل. وبوعى أو بدون وعي تحولت حصيلة مسيرة الوحدة وتجربتها إلى فخ.. أو مصيدة وأخشى القول أن تتفاقم الأمور وتحولها إلى لغم موقوت.

هل الناس فئران إلى هذا الحد؟

إذن - ووفق المنطق كما يبدو لي - يزداد ثقل القيود وتتمحور الحركة السياسية حول مواثيق مجهولة واتفاقات خفية وبنود غامضة ويحتدم الشد والجذب وعندما يتحدث شخصان في نفس الوقت تضيع الحقيقة.. وكل شيء يدو ر في أماكن معتمة وبطقوس ونواميس عجائبية وكأنها أمام محفل ماسوني أو جلسة تحضير للأرواح تنتهي بنواح كوديات الزار المحترفات! يدور كل شيء في الخفاء وكأن الناس لا يستحقون حتى أن يعرفوا.. هل الناس فعلاً فئران إلى هذا الحد؟

يزداد ثقل ضغط الوطن على كاهل المواطن..ويتضاعف عبث الضاغطين على صبره وتصبح حركة المواطنين محكومة بمزاج التقاسم ومراكز نفوذه.. يتلمس اليمني بطاقة هويته عند التنقل بين مناطق الوطن الواحد لأنه ليس ثمة منطق واحد للوطن كله يكفل للمواطن الحفاظ على أهليته وانتمائه الأعلى حيثما ذهب وكيفما ذهب وأينما ذهب.. لا مواطنين ولا حتى رعايا إلى أن نكف عن مناقشة الشرعية الدستورية ونحن نأكل من مزابل القمامة.. صحيح أن طبائع الناس وعاداتهم تختلف وتتباين وتتماهى بين منطقة وأخرى فهذه طبيعة الأشياء في كل مكان بحكم التقاليد الموروثة والمكتسبة.. لكن الآخرين في البلدان الأخرى يجمعهم حكم مركزي واحد وفق نظام يستند إلى أسس حقيقية لها وجود وفاعلية من خلال دستور كامل الشرعية ومنظومة قوانين حية على أرض الواقع لا مدفونة في الأضابير لكي تمثل المرجعية التي يحتكم إليها الجميع كباراً وصغاراً.. لا تعبث بها الأهواء الحزبية ولا مطامع الساسة وطموحات الحكام أو المتطلعين إلى الحكم.. ولا تفرق بين الناس مناطقياً أو حزبياً أو إنسانياً.

لماذا لا نتصارح ونتكلم بقلوب مفتوحة وبوضوح كلما دخلنا في مأزق أو حتى عندما نتناقش في قضايا ذات طابع مصيري قد يترتب عليها مستقبلنا كله؟ هناك أمر واقع نتفق جميعاً على أنه بغيض ونكرهه.. لكن كراهيتنا له لا تلغيه ولا تلزمنا بتجاهله.. بل على العكس.. إنها تفرض علينا مواجهته والتصدي له.. إنه موجود كأمر واقع وواجبنا معاً كشفه والتغلب عليه.. هذا الأمر الواقع هو رواسب ومخلفات وآثار انقسامنا قبل الوحدة وحياتنا في جمهوريتين بكل ما فيهما من حسنات وعيوب وسيئات وفقر وغنى.. ومن مناطق وطوائف ومذاهب وشيع، ومن قبائل وفخائذ وعشائر وسلالات وأسر.. وبالديمقراطية السياسية والتعددية تداخل كل هذا الخليط وتمازج لكنه للأسف لم يذب ذوباناً اندماجياً كلياً متقن المزج ليولد ذلك النتاج المأمول للإنسان اليمني الجديد الذي لا تشرذمه الولاءات ولا تعيقه الانتماءات ولا يكبله تخلف الماضي البعيد والقريب وتعبث به قيود الأمكنة والأزمنة والظروف.. وأمزجة الحكام.. لم يولد مع الوحدة للأسف ذلك الإنسان المستقل بوعيه وإرادته المتطهر من ارتباطاته الشطرية والمناطقية والخ.. وبدلاً من ذلك ساعدت الظروف السيئة التي نشأت بعد الوحدة على تثبيت تلك الارتباطات القديمة وتقويتها على حساب الارتباط الأعلى والأسمى بالوطن.. وانحدرت الخطوط البيانية إلى الأسفل وتقولبت السيكولوجية الشخصية بطريقة محزنة.. نفعية.. خائفة متقلبة.. تقول ولا تفعل.. تضمر ولا تظهر.. تحلم ولا تحقق الحلم.. ووصلت بنا الازدواجية إلى حد الانفصام كأننا فعلاً وقعنا في فخ أو مصيدة للفئران لأننا فقدنا القدرة على التصرف السليم.

هكذا نحن في زمن السلم والانفراج في أحوالنا الاعتيادية.. فكيف نصبح في زمن الشدة وما يتلوها من أزمات وتناحر وقلاقل؟ ولا أريد أن أذهب في التساؤل إلى أبعد من ذلك ولا أن أرى الخط البياني يواصل انحداره حتى لا تصل الأمور إلى ما لا نتمناه وما لا تحمد عقباه.. فعندئذ لن يبقى للرؤية اتساع ولا للنظر مجال ولا للكلمة معنى.. لا أريد أن أرى ذلك فأحوالنا سيئة بما يكفي كما هي عليه الآن وبدون المزيد.. لأننا فقدنا المرجعية.. ومعها فقدنا القدوة.. ولن نسترد الأولى بدون الثانية.. والعكس أيضاً صحيح!