> محمد سالم قطن:

محمد سالم قطن
محمد سالم قطن
منح - يمنح- فهو مانح، والمنح هو من أفضل الأعمال وجلائلها، ولهذا أحب الناس المانحين من قديم الزمان ومدحوهم,ومن فعل المنح وصف آباؤنا شاة الدار التي تدر اللبن بالمنيحة. وقبل اختراع اللبن المجفف واستيراد علبه وعبواته المتنوعة إلى بلادنا كانت كل أسرة تحرص على الاحتفاظ بشاة ولود مدرارة في المنزل «منيحة» حتى أن أحد شعراء الفخر امتدح البلدة التي يعيش فيها، وقد كانت (بندر) التجارة وميناء الأرزاق، بقوله:

والمنيحة لي معانا كم تسوي من لبن ** واليتامى كل ليلة من لبنها يشربون

وفي بلاد الشام يصفون كل ما هو جميل وطيب بالمنيح، ولا شك أنهم لم يبتعدوا في الوصف فالمنح منيح، والمانح منيح، خاصة إذا لم يتبع منحه بالمن والأذى.

وفي العصور الحديثة استخدام الإعلام مصطلح الدول المانحة، ويقصد بها الدول الغنية التي اعتادت أن تمنح غيرها من الدول الفقيرة بعض المعونات والقروض ولأن العلاقات بين الدول هي علاقات سياسية، نرى أن المنح هنا يكون خاضعاً لمتطلبات السياسة ودوافعها، الأمر الذي جعل لهذا الموضوع أبعاداً جديدة ودهاليز عديدة اقتضت من العاملين عليها تأسيس نادي باريس ومؤتمرات المانحين.

أما على مستوى الأفراد، فحدث ولا حرج، بعض المانحين يحبون الدعاية الجميلة عن أنفسهم، وبعضهم الآخر يكون كرمهم ومنحهم مبنياً على حسابات دقيقة مع مصالحهم، أما القليل النادر منهم فهم الذين يمنحون من قبيل المروءة ولوجه الله، وقد ابتُلي هؤلاء الأخيرون بتشكيلات فجة من السعاة والوسطاء والبطانات، تدخل بعضهم حتى في زكوات المانحين وتوزيعها، فكانوا وبالاً على المانحين والممنوحين على السواء.

ولأن هذه الإشكالية قد تضخمت كثيراً في هذا الزمن نتيجة لتردي الظروف وتقلص الأمانة، فقد يصبح من اللائق عما قريب، أن يستحدث هؤلاء المانحون الفرديون لأنفسهم نادياً يشبه نادي باريس أو مؤتمراً يحاكى مؤتمر لندن، وحتى لو نجحوا في ذلك، فإن النجاة من مخالب الوسطاء وغزل البطانات أمر دونه خرط القتاد، إن لم يكن من رابع المستحيلات بعد الغول والعنقاء والخل الوفي.