> كلوفيس مقصود:
المفارقة في اوضاعنا تتمثل في ان الكثير من تحليل اسبابها لا يؤدي الى حل لأي منها، لكأن التحاليل تحولت معظم الاحيان نقيضاً أو انتفاء لإمكان التوصل الى الحلول. وقد تكون لهذه المفارقة دوافع او اسباب. ولكن عجز التحليل عن التوصل الى الحل قضية لم يعد جائزا اهمالها وعدم النفاذ الى صميم دوافعها.
ونشير في هذه المفارقة الى ان ما حصل في لبنان وللبنان اخيراً وما يحصل في فلسطين المحتلة والى حد اكثر تعقيدا، يكاد يؤكد عمق وصعوبة، وخطورة الغربة القائمة بين ضرورتين ملحتين، التحليل والحل.
بكلام اكثر وضوحا، نذكر انه في كل من لبنان وفلسطين والعراق يصر كثير من المتسببين بالازمات على ان لا مخرج منها الا بـ"الحوار". او بتعبير ادق "العودة الى الحوار". وحتى الحوار الذي هو حتما افضل منهما من الصراع، يبقى وسيلة وليس غاية في ذاته. وقد اثبتت الحوارات في الاقطار المذكورة انها حتى في انجازاتها بتعليق موقت للصراعات بقيت مسكنات مرحلية بعيدة عن الحلول المطلوبة، فأبقت الحوارات بدائل لمقتضيات التحليل، وبالتالي ادت الحوارات الى انتاج هدنات بدلا من تمكين الوطن من الوصول الى السلم الاهلي الذي بدونه لا حرية ولا تحرر ولا نمو ولا تنمية، وبالتالي لا مرجعية مركزية موثوق بها ولا بوصلة.
لنكن اكثر وضوحا: ما حصل في بيروت خصوصا كان بمثابة تثمير لما زرعته العصبيات الغريزية في واقع اجتماعي سياسي افرزه نظام طائفي مصر على استبعاد صيغة المواطنة التي وحدها تضمن ليس مجرد الوحدة الوطنية بل كذلك اللحمة المجتمعية.
كذلك الأمر في الحالة الفلسطينية حيث التقاتل بين "فتح" و"حماس" يكاد يصيب القضية الفلسطينية في مقتلها بعدما سقط الطرفان في مصيدة اوسلو، احدهما عمدا والآخر تفعيلا لنجاعة سرابية.
وكما في لبنان يدعو المعنيون الى معاودة "الحوار"
والى "حكومة وحدة وطنية" من دون الرجوع الى جذور الفصام الذي يحدد كون الاحتلال القائم غير معترف بواقعه من المحتل الاسرائيلي نفسه. وهذا كما اشرنا مراراً، ادى الى الانقسام الحالي لكونه تحول تنافساً على تقاسم صلاحيات موهومة. ولن تستقيم الاوضاع المتردية إلا اذا عادت المعادلة، الى كون القيادة الفلسطينية تقود مقاومة للاحتلال سلما ان امكن وبغير الوسائل المشروعة إذا اقتضى الأمر.
****
في هذا المضمار، وقبل الاشارة الى الوضع العراقي، نجد ان اشكالية السلطة (الرئاسة) الحائزة تأييد الحلفاء الغربيين واحتضانهم بقيادة الولايات المتحدة، والحكومة المنتخبة ("حماس") والمحاصرة ممن يحتضنون السلطة "فتح" ارست بذور التقاتل المتقطع والدعوة الى "الحوار" الذي بدوره يتقطع ايضاً، وذلك في وجه شبه مع الحالة اللبنانية.
صحيح ان في لبنان مؤسسات دولة قائمة لكن اوجه الشبه تكمن في تعاطي الادارة الاميركية وكل منهما. فالحكومة المنتخبة في لبنان جديرة بالمساعدات المالية السخية كما ظهر في نتائج مؤتمر باريس - 3، اما الحكومة المنتخبة في فلسطين المحتلة فهي، بالنسبة الى الادارة الاميركية، فاقدة الاهلية لأي مساعدة مالية لكونها "ارهابية" ويجب ان تستحضر تاليا حصاراً على الشعب الذي انتخبها وقيودا على حركتها. وتضيف الادارة الاميركية ان "حماس" - الحكومة لا تعترف بإسرائيل، اذاً فموضوع "الانتخابات الحرة" غير وارد كشرط مسبق لنيل المساعدة الاميركية وللاحتضان الذي يبدو خانقاً احياناً!
في الحالة اللبنانية الاحتضان الدولي للحكومة اللبنانية اكثر شمولية، ويتميز بتنوع ملحوظ خاصة بين العربي والاوروبي والاميركي لكون الاحتضان الاميركي يبقى ممسوكا بالحلف الاستراتيجي مع اسرائيل والتورط الدامي في العراق. وهذا بالتالي يؤدي الى جعل المساعدة الاميركية وما يتبعها من احتضان خاضعة الى اولويات لها في المنطقة لا تنسجم في معظمها او على الاقل في الكثير منها في المرحلة الراهنة مع مقتضيات الوحدة الوطنية الصلبة في كل من لبنان وفلسطين. ولعل المثال الواضح ان ادارة الرئيس جورج بوش لا تتعامل مع قوى مهمة في المجتمعين لكونها "ارهابية"، وبالتالي تساهم سياستها في هذا الشأن بوعي أو بلا وعي تأجيج الانقسام، وما قد يتبعه وتفعيل ما قد ينطوي عليه من توتير والحؤول دون الوحدة الوطنية في كل من الحالتين.
****
... ولمزيد من الوضوح لا بد من العودة الى الشأن العراقي هنا علينا اذا اعتمدنا منهج التحليل تبرز بذور حلول متوافرة داخل العراق، وبالتالي تعديلات في سلوك ادارة بوش في المستقبل المتوسط. هذا لا يعني ان تتوقع انفراجات آنية بل من الجائز ان نتوقع انفراجات وبعض الفرملة في استمرار ادارة بوش في حالة الانكار التي هي فيها، وشراسة الاملاءات التي تمارسها على بعض قيادات المنطقة.
فنتائج الانتخابات النصفية للكونغرس التي فاز فيها الديموقراطيون بالاكثرية على اساس رفض الرأي العام الاميركي لحرب ادارة بوش في العراق من شأنها ان تؤدي الى تأكيد حق الكونغرس في التحقيق بالذرائع الكاذبة والاخطاء التي ارتكبت والخسائر التي حصلت والفلتان المذهبي والطائفي والعرقي الذي استفحل وعزلة الولايات المتحدة وانخفاض نفوذها حتى في الدول الحليفة لها. اجل فان المساءلة لا بد ان تأتي بعقوبات سياسية كما يبدو في انخفاض شعبية الرئيس بوش، وما قد تؤول اليه محاكمة سكوتر ليبي - رئيس مكتب نائب الرئيس تشيني والتي تدل المؤشرات الاولية فيها الى احتمال التجريم لا لليبي فحسب بل لاكثر من مسؤول حالي وسابق خصوصا في عصبة "المحافظين الجدد".
ان ما هو حاصل في ثنائية رئاسة بوش والكونغرس جديرة بالدرس حتى نتمكن من التحلل من الارتهان، لما ينطوي عليه النزاع الاميركي - الايراني من توترات وتصنيفات بين اعتدال وتطرف ترسخ الانقسام العربي وتمنع في شكل قاطع اي احتمال لوحدة المواقف العربية مما يعطل تصويب الاوضاع الوطنية في كل من اقطار المثلث المأزوم. تصويب يجب ان يتبلور في الواقع اللبناني بتفعيل مبادرة الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى.
اما التصنيف الاميركي من محور الاعتدال في المنطقة فهو في جوهره وحقيقته اخراج لاسرائيل من اشكالياتها وتسريبها فعليا كي تملئ فراغا أحدثه الغياب العربي الموحد عن التدخل العاجل في تفاقم الازمات في المثلث المازوم.
ولكي تكون الحلول حصيلة التحاليل علينا ان نوفر الارادة السياسية من اجل ربط التحليل الموضوعي بالحل المرغوب.
المدير السابق لمكتب الجامعة العربية بواشنطن
عن «النهار» اللبنانية 28 يناير 2007
ونشير في هذه المفارقة الى ان ما حصل في لبنان وللبنان اخيراً وما يحصل في فلسطين المحتلة والى حد اكثر تعقيدا، يكاد يؤكد عمق وصعوبة، وخطورة الغربة القائمة بين ضرورتين ملحتين، التحليل والحل.
بكلام اكثر وضوحا، نذكر انه في كل من لبنان وفلسطين والعراق يصر كثير من المتسببين بالازمات على ان لا مخرج منها الا بـ"الحوار". او بتعبير ادق "العودة الى الحوار". وحتى الحوار الذي هو حتما افضل منهما من الصراع، يبقى وسيلة وليس غاية في ذاته. وقد اثبتت الحوارات في الاقطار المذكورة انها حتى في انجازاتها بتعليق موقت للصراعات بقيت مسكنات مرحلية بعيدة عن الحلول المطلوبة، فأبقت الحوارات بدائل لمقتضيات التحليل، وبالتالي ادت الحوارات الى انتاج هدنات بدلا من تمكين الوطن من الوصول الى السلم الاهلي الذي بدونه لا حرية ولا تحرر ولا نمو ولا تنمية، وبالتالي لا مرجعية مركزية موثوق بها ولا بوصلة.
لنكن اكثر وضوحا: ما حصل في بيروت خصوصا كان بمثابة تثمير لما زرعته العصبيات الغريزية في واقع اجتماعي سياسي افرزه نظام طائفي مصر على استبعاد صيغة المواطنة التي وحدها تضمن ليس مجرد الوحدة الوطنية بل كذلك اللحمة المجتمعية.
كذلك الأمر في الحالة الفلسطينية حيث التقاتل بين "فتح" و"حماس" يكاد يصيب القضية الفلسطينية في مقتلها بعدما سقط الطرفان في مصيدة اوسلو، احدهما عمدا والآخر تفعيلا لنجاعة سرابية.
وكما في لبنان يدعو المعنيون الى معاودة "الحوار"
والى "حكومة وحدة وطنية" من دون الرجوع الى جذور الفصام الذي يحدد كون الاحتلال القائم غير معترف بواقعه من المحتل الاسرائيلي نفسه. وهذا كما اشرنا مراراً، ادى الى الانقسام الحالي لكونه تحول تنافساً على تقاسم صلاحيات موهومة. ولن تستقيم الاوضاع المتردية إلا اذا عادت المعادلة، الى كون القيادة الفلسطينية تقود مقاومة للاحتلال سلما ان امكن وبغير الوسائل المشروعة إذا اقتضى الأمر.
****
في هذا المضمار، وقبل الاشارة الى الوضع العراقي، نجد ان اشكالية السلطة (الرئاسة) الحائزة تأييد الحلفاء الغربيين واحتضانهم بقيادة الولايات المتحدة، والحكومة المنتخبة ("حماس") والمحاصرة ممن يحتضنون السلطة "فتح" ارست بذور التقاتل المتقطع والدعوة الى "الحوار" الذي بدوره يتقطع ايضاً، وذلك في وجه شبه مع الحالة اللبنانية.
صحيح ان في لبنان مؤسسات دولة قائمة لكن اوجه الشبه تكمن في تعاطي الادارة الاميركية وكل منهما. فالحكومة المنتخبة في لبنان جديرة بالمساعدات المالية السخية كما ظهر في نتائج مؤتمر باريس - 3، اما الحكومة المنتخبة في فلسطين المحتلة فهي، بالنسبة الى الادارة الاميركية، فاقدة الاهلية لأي مساعدة مالية لكونها "ارهابية" ويجب ان تستحضر تاليا حصاراً على الشعب الذي انتخبها وقيودا على حركتها. وتضيف الادارة الاميركية ان "حماس" - الحكومة لا تعترف بإسرائيل، اذاً فموضوع "الانتخابات الحرة" غير وارد كشرط مسبق لنيل المساعدة الاميركية وللاحتضان الذي يبدو خانقاً احياناً!
في الحالة اللبنانية الاحتضان الدولي للحكومة اللبنانية اكثر شمولية، ويتميز بتنوع ملحوظ خاصة بين العربي والاوروبي والاميركي لكون الاحتضان الاميركي يبقى ممسوكا بالحلف الاستراتيجي مع اسرائيل والتورط الدامي في العراق. وهذا بالتالي يؤدي الى جعل المساعدة الاميركية وما يتبعها من احتضان خاضعة الى اولويات لها في المنطقة لا تنسجم في معظمها او على الاقل في الكثير منها في المرحلة الراهنة مع مقتضيات الوحدة الوطنية الصلبة في كل من لبنان وفلسطين. ولعل المثال الواضح ان ادارة الرئيس جورج بوش لا تتعامل مع قوى مهمة في المجتمعين لكونها "ارهابية"، وبالتالي تساهم سياستها في هذا الشأن بوعي أو بلا وعي تأجيج الانقسام، وما قد يتبعه وتفعيل ما قد ينطوي عليه من توتير والحؤول دون الوحدة الوطنية في كل من الحالتين.
****
... ولمزيد من الوضوح لا بد من العودة الى الشأن العراقي هنا علينا اذا اعتمدنا منهج التحليل تبرز بذور حلول متوافرة داخل العراق، وبالتالي تعديلات في سلوك ادارة بوش في المستقبل المتوسط. هذا لا يعني ان تتوقع انفراجات آنية بل من الجائز ان نتوقع انفراجات وبعض الفرملة في استمرار ادارة بوش في حالة الانكار التي هي فيها، وشراسة الاملاءات التي تمارسها على بعض قيادات المنطقة.
فنتائج الانتخابات النصفية للكونغرس التي فاز فيها الديموقراطيون بالاكثرية على اساس رفض الرأي العام الاميركي لحرب ادارة بوش في العراق من شأنها ان تؤدي الى تأكيد حق الكونغرس في التحقيق بالذرائع الكاذبة والاخطاء التي ارتكبت والخسائر التي حصلت والفلتان المذهبي والطائفي والعرقي الذي استفحل وعزلة الولايات المتحدة وانخفاض نفوذها حتى في الدول الحليفة لها. اجل فان المساءلة لا بد ان تأتي بعقوبات سياسية كما يبدو في انخفاض شعبية الرئيس بوش، وما قد تؤول اليه محاكمة سكوتر ليبي - رئيس مكتب نائب الرئيس تشيني والتي تدل المؤشرات الاولية فيها الى احتمال التجريم لا لليبي فحسب بل لاكثر من مسؤول حالي وسابق خصوصا في عصبة "المحافظين الجدد".
ان ما هو حاصل في ثنائية رئاسة بوش والكونغرس جديرة بالدرس حتى نتمكن من التحلل من الارتهان، لما ينطوي عليه النزاع الاميركي - الايراني من توترات وتصنيفات بين اعتدال وتطرف ترسخ الانقسام العربي وتمنع في شكل قاطع اي احتمال لوحدة المواقف العربية مما يعطل تصويب الاوضاع الوطنية في كل من اقطار المثلث المأزوم. تصويب يجب ان يتبلور في الواقع اللبناني بتفعيل مبادرة الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى.
اما التصنيف الاميركي من محور الاعتدال في المنطقة فهو في جوهره وحقيقته اخراج لاسرائيل من اشكالياتها وتسريبها فعليا كي تملئ فراغا أحدثه الغياب العربي الموحد عن التدخل العاجل في تفاقم الازمات في المثلث المازوم.
ولكي تكون الحلول حصيلة التحاليل علينا ان نوفر الارادة السياسية من اجل ربط التحليل الموضوعي بالحل المرغوب.
المدير السابق لمكتب الجامعة العربية بواشنطن
عن «النهار» اللبنانية 28 يناير 2007