إن الحديث عن الفستق واللوز والعسل، ونحو ذلك من الأشياء، يعد نوعا من الترف في هذه الأيام، التي تسحق الناس بغلاء الأشياء الأساسية الضرورية مثل الطحين والأرز والسمك والسمن والبترول والغاز والمواصلات وغير ذلك. وحاشا لله أن نكون من المترفين المسرفين، ولكن أن تصل الحبة الفستق أو اللوز إلى ثلاثين ريالا فهذا مؤشر خطير يدل على فداحة الوضع، وتدهوره معيشيا واقتصاديا، ومن وراء ذلك سياسيا وأخلاقيا.
مررت قبل أيام أمام محل بهارات، فاشتاقت نفسي إلى حبيبات من الفستق أقرعها تحت سني، خاصة المغلقة منها تماما. تحسست جيبي فوجدت فيه ثلاثمائة ريال، فدفعت باب المكان ودخلت، فلما رآني البائع استبشر خيرا وظن أنني سأشتري كيلو من العسل مثلا أو كيلو من اللوز أو غير ذلك من الأشياء الثمينة، فمددت له يدي بما لدي، وقلت له أريد فستقا، لم يقل شيئا فادخل فم المغرف في حوض الفستق، وأخرج حبيبات معدودة، حزرتها عشرا أو أكثر قليلا، فوضعها في الميزان، فقلت له ما هذا؟! قال هذا حقك مع زيادة عشرين ريالا مني، قلت إذا لماذا لا تبيعون الفستق واللوز بالحبة فلعل هذا أخرج لنا ولكم؟ ضحك وفهم نغمة الاحتجاج في كلامي. قلت له فبكم ستكون الحبة وفق هذا الميزان اليوم؟! فكر قليلا وقال خمسة وعشرون ريالا...
لقد قرأت يوما في أخبار سوريا الشقيقة في أيام عزتها ونعمتها أن المرأة كانت تمشي في الشارع تحمل أقراص العيش الكبيرة، فإذا سقط واحد منها على الأرض لم تلتفت إليه، ولم تأبه له، وقرأت كذلك في أخبار العراق الشقيق، في زمن الرخاء والخير، أن العراقيين لم يكونوا يأكلون أي طعام مبيت من اليوم السابق، وكان مصير ذلك الأكل المزبلة والنفايات.
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع!
....
ولكن يبقى السؤال هنا: ماذا فعلنا نحن في هذه البلاد حتى يحل فينا ما حل؟!
عموما، فقد عثرت على الفستقة معفرة بالتراب فمسحتها جيدا وأدخلتها في صويحباتها، ومضيت لأكتشف أن حبتين من الفستق التي معي داخلهما هواء أي إنهما فاسدتان، يعني أن خمسين ريالا ذهبت بلا شيء، أو قل بلاش حسب دمج الكلمات الثلاث في كلمة واحدة.
وفي الحقيقة، لم تكن هناك مجاعة، فقد كانت الأشياء الضرورية الرئيسة متوفرة بأسعار مناسبة ومدعومة من الدولة.
أما عن شرب الشاي في المعسكر فحدث ولا حرج، فقد كان جماعيا، حيث تجد كل خمسة أو ستة من الجنود والمجندين يحتسون الشاي من علب فاصوليا كبيرة، يتنازعونها شربةً شربةً، وفي ذلك متعة استقبال ليوم عمل مضن أو توديعا له، والأجمل من ذلك أن تلك المجاميع كانت ممزوجة من كل مناطق الجنوب، كما هو مزج الشاي والماء والسكر والحليب الذي يشربونه من تلك العلب صباح مساء.
من اين عاد الراس بايفتهن
والجوف من داخل ملانه
والزنجبيل الرطل تسعه شلن
والحبة الكبريت من عانة
فكيف بالخالدي إذا عاش إلى هذا الزمان ماذا كان سيقول عن جنون الأسعار، وهذا الانهيار؟ والله المستعان!