في الربع الأخير من العام 2021م، وفي ظل أجواء فتاكة ومدمرة لأسعار صرف الريال اليمني، والذي لامس مستوى غير مسبوقة قارب ال 1800 ريال لكل دولار أمريكي، تحرك البنك المركزي اليمني للتدخل  لاحتواء الوضع ووقف هذا التدهور المتهور لسعر صرف العملة الوطنية وما مثلته هذه الأجواء المسمومة من صدمات مميتة وتبعات قاتلة مستدامة على حياة ومعيشة المواطن هي قائمة ولم تتوقف لسنوات مضت.

- وللوصول إلى هدفه وسعيه في هذا الصدد، استخدم وطبق البنك المركزي وتلقائيًا إجراءات وقرارات ميدانية تقليدية عرجة (كما في السابق) وعلى رأسها كانت حملة إغلاق لمحلات الصيرفة غير القانونية وكذا التلويح للبقية باتخاذ الإجراءات القانونية ضد المتلاعبين منهم بأسعار الصرف بما فيها عمليات المضاربة. ولكن ونتيجة للضغوط والانتقادات من الداخل والخارج ومن الشارع عامة وجهات الاختصاص تحديدًا، ولأجل تدخل المركزي في سوق "سعر الصرف " فقد تم تحت هذه الظروف المزلزلة وضع توصية ومقترح بتولي هيئة أجنبية مستقلة "إدارة بيع الدولار الأمريكي" إلى قطاع التجار والمستوردين اليمنين مباشرة أو عن طريق البنوك العاملة في اليمن.

- وبناء عليه، وبهذا الخصوص طلب المركزي اليمني " الاستشارة والتوصية" بهذا الأمر من "بنك إنجلترا" (المركزي) والذي وجه بالتعاقد مع شركة  "ريفينتيتيف  Refinitive" المتخصصة في توفير معلومات وخدمات مالية تتراوح من تكنولوجيا الأسواق المالية إلى تكنولوجيا المعلومات والتحاليل والتجارة المالية وأدوات ومنتجات التقييم المالي. وتغطي خدمات هذه الشركة (إنجليزية المنشأ) أغلب دول العالم.

وقد تم اتخاذ القرار بتولي " منصة ريفينيتيف" بيع الدولار الأمريكي للتجار والمستوردين مقابل الريال اليمني بطريقة "المزاد  Auction "; لن نخوض في آليات "المنصة" لأنها أصبحت معروفة وواضحة.
- ولأجل الشروع في عمليات "مزادات بيع الدولارات الأمريكية " فقد تم بناء رصيد يصل في أحسن الأحوال إلى مليار دولار أمريكي جاء معظمه (70 %) من تسهيل حقوق السحب الخاصة من قبل صندوق النقد الدولي؛ وباقي المبلغ من وديعة كانت محجوزة لدى بنك إنجلترا بالإضافة إلى رصيد متواضع تراكم من صادرات النفط الخام.

- يمكن القول وبتحفظ إن إجمالي المبالغ والتي تم بيعها منذ بدء عمليات ال " مزاد" بواسطة "منصة ريفينيتيف" وإلى حينه قارب ال250 مليون دولار أمريكي.

- ولكن في حال جاءت آلية " منصة ريفينيتيف " ببعض التحسن في سعر صرف الريال اليمني، فذلك يعود إلى عوامل وظروف سياسية ومالية "ساعدتها" في ذلك. ولكن وبسبب طبيعة "هيكل" آلية المنصة فإن استمرار واستدامة عملياتها/نشاطها هو " مشروط ومرهون " بتوفر  أرصدة كافية لدى البنك المركزي اليمني من الدولارات الأمريكية  ؛ بمعنى أوضح، في حال استنزف الرصيد القائم (المذكور أعلاه) لدى المركزي اليمني فلسوف وتلقائيًا تتوقف المزادات و"تغلق المنصة" أبوابها. فهل أخذنا هذا الاحتمال بعين الاعتبار؟

- من ناحية أخرى، الحرب الروسية الأوكرانية والمستمرة منذ أكثر من 3 أشهر "كشفت المستور" فيما يتعلق ب هشاشة البنية الأساسية المختلفة المتعلق "بالأمن الغذائي الوطني". ذلك، أننا دولة تستورد نحو 90-95 % من احتياجاتنا من الحبوب (القمح أساسا). وأن نحو 60 % منها يأتي من كل من روسيا وأوكرانيا.

- وما هو متوفر حاليًا في الأسواق اليمنية، ويعطي الانطباع الخاطئ للمستهلك، إنما هو ما تم استيراده من قبل القطاع الخاص وخزن ووزع وبيع قبل الحرب الراهنة في البلطيق ومصيره حتمًا إلى النقصان التدريجي ولا سمح الله إلى الندرة... لاحقًا.

- وفي خلال الأشهر الثلاثة الماضية ارتفعت أسعار القمح من نحو 300 دولار أمريكي للطن إلى نحو 460 دولار أمريكي للطن، وهو الأعلى منذ العام 2008م.

- وبناء على حالة الحرب واحتمالات استمرارها فيصبح لوجستيكيا من الصعب تصدير القمح من كل من روسيا وأوكرانيا (وهذا الواقع الآن)  مما سيضغط على رفع الأسعار خاصة إذا نفذت دول القمح " البديلة " سياساتها الحمائية (بعدم التصدير الحبوب للمصلحة الوطنية).

- إن الحالة الخطيرة والتي وصل إليها حال ومخزون سلعة القمح هو ما أجبر أكبر البيوت التجارية في اليمن والغرفة التجارية والصناعية في عدن إطلاق "نداء الاستغاثة" وشرح العواقب الكارثية لهذا الوضع الخطير والتنبيه على اتخاذ تدابير فورية وعملية في هذا الصدد.

- ولعل أحد أهم هذه التدابير هو إيجاد دول قمح بديلة (مثال: الهند، الأرجنتين،  أستراليا).ولكن مثل هذه الخيارات، وإن وجدت، فإنها تتطلب موارد مالية كافية حاضرة وجاهزة للتعاقد والشراء والشحن. ولكن لسوء حظنا فالقطاع الخاص المتخصص في استيراد الحبوب لا يملك المقدرة المالية الكافية والتي تؤهله لكي يساهم "جذريًا" في هذا المجال. وكذا هو حال الدولة (وبنكها المركزي) فلا تصنيف ائتماني مقبول خارجيًا ولا موارد مالية مقبولة يجعلها عنصر سريع وفعال في حل هذه المعضلة... الأمن الغذائي.

- وعليه، فإنه يتوجب على الدولة القيام بواجباتها الوطنية تجاه شعبها ومن أهم هذه الواجبات تأمين لقمة العيش مستدامة بيسر وسهولة.

- ومن هذا المنطلق، فإن على الدولة البدء بعمل مراجعة أساسية لكافة سياساتها وبرامجها وخططها الاقتصادية والمالية، القائمة منها تحديدًا، من أجل تحصيل وجمع وتوفير ما يمكن من أموال وأرصدة نقد أجنبي والبدء في وضع حلول ومخارج سريعة تتعلق بالأمن الغذائي عامة واستيراد. الحبوب خاصة؛ بما فيها الاستعانة بالتحالف العربي في هذا الصدد، حكومات وبنوك مركزية وقطاع مصرفي وقطاع خاص وحتى على مستوى شعوبها (لا بأس بحملة تبرعات).

- ولعل الأولوية في مسار الحل هو "الوقف الفوري" ودون إبطاء لعمليات بيع الدولار الأمريكي بطريقة المزادات عبر "منصة ريفينيتيف". وفي المقابل استخدام وتحويل أرصدة "مخصص" المنصة الباقية (نحو 750 مليون دولار من الدولارات الأمريكية) إلى "صندوق يؤسس" لتمويل جزء لا يستهان به من عمليات الاستيراد من السوق العالمي يكون المقدمة الأولى في هذا المجال. والأنباء الطيبة من الهند (مصدر بديل) عن "استثناء اليمن" من قرار "حظر التصدير الهندي" يحثنا على أن نكون "بنفس المسؤولية" من خلال تحضير وتجهيز الموارد المالية لذلك.

- السؤال: أيهما أهم، مصير شعب صابر مطحون (يقترب من شبح المجاعة) يجب أن يوفر له الحد الأدنى من الغذاء؟ أو سعر صرف الريال "نتباهى" بتحقيقه على الرغم من "عقمه" المالي/النقدي في القضاء/ وقف موجة  غلاء الأسعار المستدامة والخالدة؟