هذه المقولة الخالدة قالها رجل فقير، وذلك عندما كان ماراً بالصدفة من أمام قصر الخليفة هارون الرشيد، وقد كان الوزراء والشعراء والمادحون محتشدين في هذا القصر الفخم، فغضب من رؤية هذا المشهد واستفز، فنادى بأعلى صوته:

يا هارون يا هارون، فهجم عليه الجند لاعتقاله، لأنه تجرّأ ونادى هارون باسمه من دون لقب الخليفة أو أمير المؤمنين، لكن هارون الرشيد، استدرك الأمر وطلب من جنده عدم اعتقاله، كما دعاه إلى الاقتراب منه، وسأله ماذا تريد يا هذا؟

أجابه الرجل: هل غضبت عندما ناديتك باسمك؟

فإني أنادي من هو خير منك باسمه، وفي كل لحظة أقول له: يا الله يا رحمن.

لقد أُعجب هارون من جراءة هذا الرجل المتواضع وحكمته، فقال له: أعضني بما عندك، فقال له: "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك"، وتابع قائلاً: أنظر هذه قصورهم، وفي الجهة المقابلة هذه قبورهم، وكم من قبور تبنى وما تبنا، وكم من مريض عدنا وما عدنا. لقد ظلت هذه المقولة محفورة في أذهان الناس إلى اليوم، وتعني العبارة أن دوام الحال من المحال، وأن العرش لا بد من أنه زائل وإن طال المقام، فلا تغتر أيها الإنسان، فالعمر وإن طال قصير، والمجد وإن علا زائل.

إن هذه الحقيقة تعني أن كل شيء في هذه الحياة لا يدوم، لا العمر ولا الجمال ولا الصحة ولا المنصب، فلا يغتر الإنسان بنفسه كثيراً ولا يتفاخر أمام من لا يملك إلا القليل، فما دامت حياة المرء قصيرة يبقى الأثر الطيب والعمل الصالح والأخلاق الحميدة ترفع من مقامه وشأنه في الحياة وبعد الممات.

"لو دامت لغيرك ما وصلت إليك" كلمات بسيطة تحمل الكثير من المعاني العميقة والدروس المفيدة وخاصة لمن يتولون المناصب ويتناسون أنها تكليف وليست تشريف، والمناصب مهما طالت فهي زائلة.

تخيل منظر من يحارب الآخرين ويكيد لهم من أجل الوصول إلى هدفه أو من يقصم ظهر المظلومين لينهب ممتلكاتهم ويبررها بقوله: الغاية تبرر الوسيلة، وربما يكذب ويخون ويلتوي من أجل أن يصل إلى هذه الغاية، لا ضير من أن يسعى الإنسان ويكافح من أجل الارتقاء، ولكن ليس على حساب الآخرين، من يتخذ ذلك طريقاً ربما يصل إلى مبتغاه، ولكن لن يدوم طويلاً، فمثلما الروائح الجميلة نشمها فإن الروائح القبيحة لها رائحة أيضاً ولكن لن يتحملها المجتمع طويلاً، وسيعمل الجميع على طردها، بينما سيدوم عطر الخير والمحبة إلى الأبد، فلا يبقى إلا الصحيح، غير أننا كبشر ننسى، أن «دوام الحال من المحال».