خفت كثيرًا عندما أخبرتني د. أسمهان بأن الأستاذة سعاد، تهديني نسخة من كتابها للقراءة و للتعليق أو وضع الملاحظات، و لأني لم أتعود أن أضع نفسي محل خائفة أو عاجزة لم أتردد عن الموافقة، التي بدورها منحتني بعض الزهو بالنفس.
تأخرت في استلام الكتاب لانشغالي، ثم استلمته يوم الثلاثاء مساءً و أجلت القراءة إلى مساء الأربعاء، و انتهيت مساء الجمعة على الرغم من الالتزامات المتعددة، التي كانت تقطعني لتحول بيني و بين القراءة المستمرة.
وجدت نفسي أهيم في مدينة منسية مع نساء منسيات، و كلاهما على حين غفلة في يقظة من يقظات إبليس أصبحتا نسيًا منسيا، و يبدو واضحًا بأن أ. سعاد جاهدت و أُجهدت لتنتزع من تلك اليقظة، مآثر نساء المدينة، أما المدينة فما زالت في فم إبليس و أبنائه و أحفاده، كنت أرحل من سطر يملأني نشوة إلى آخر يملأني اعتزازا، من صفحة أتمنى فيها بأن أكون جزءا من ذلك التاريخ إلى آخر أحلم بأني أعيش فيه.
كنت قد قرأت من السابق عن العديد من الأسماء، التي احتضنت الصفحات سيرهن ومسيرة نضالهن وأخص بالذكر المناضلة رضية إحسان الله من خلال بعض كتبها و عما كُتب عن نور حيدر، ماهية نجيب، زهرة هبة الله، عايدة علي سعيد، و عن البعض من خلال ما كتبته رضية إحسان الله و بعض الكُتاب وإن كان ذكرا عابرا.
أثناء ترحالي من شهادة إلى أخرى، تذرف عيناي دمعا حارا، و أختنق بعبراتي من الغبن و الضيم و الظلم. فقد أبكتني المراحل الأخيرة لحياة ماهية نجيب و تمكن مني الحزن لحياة نجوى مكاوي، و إن كانت حظيت باسم وحدة سكنية، فمن وجهة نظري على الأقل بأن ذلك لا يعني شيئا، و صافيناز خلفية المرأة التي لم تنصف ربما لقلة الشهادة عنها، و رحيل عايدة علي سعيد بصمت مؤلم، و أوجعني بضعة الأسطر عن خالتي ثريا منقوش، و هي التي أتعبت جدتي بالسفر وراءها من محافظة إلى أخرى، و ساعدتها في إخفاء المناضلين و السلاح، و هذه الحكايات عن النضال المحفوف بالقلق و الخوف و المحبة و شهادتي مجروحة بحقها، و لا عتب على أ. سعاد في هذا لأني كنت حاضرة في رحلة البحث عنها، حتى أنا وجدت بأني في تلك السطور لا أعلم شيئا عنها.
جذبني بفرح نضال نساء لحج (سعود المنتصر و زوجها من «عائلة جدي لأمي»، رزيقة، فتحية البان، حميدة) و الأميرات الفضليات في أبين (كاملة، بونة، عيشة و علم).
يشعر القارئ بصدق الكلمة في الشهادات الشفهية إلا بنيف منها، و هذا أمر متوقع بأن يراودني ذلك الإحساس، و لا يُقلل إحساسي و شعوري هذا من قيمة كلُ حرف في الكتاب، ومع ذلك الإحساس انتابتني حيرة كثيرًا ما تصدع رأسي فقد تركتني أ. سعاد اثناء رحلتي في محطة لم أستطع مواصلة قضبان سكة الحديد مع بعضها البعض؛ وهذه الحالة تنتابني دائمًا حين أقرأ ولا أستوعب ولا أفهم، لماذا كانت النهايات مؤلمة لمعظم النساء باستثناء البعض منهن؟، في المرأة و الأحزاب السياسية صفحة 68 (كانت المفارقة في نهج أسلوب الكفاح بين الجبهة القومية و حزب الشعب الإشتراكي بسبب انتهاج الأولى أسلوب الكفاح المسلح في مواجهة الاحتلال، اتسمت هذه العلاقة بين الطرفين بالتوتر و انتقل هذا التوتر و الصراع إلى عضوات جمعية المرأة العربية، بما أحدث إنقسامًا بينهن...) و جاء في اللقاء مع عايدة علي سعيد صفحة 132 (وبعد الكفاح المسلح في 1963م حدث انشاق في جمعية النساء العربيات فتكونت منها مجموعتا اليمين و اليسار على الرغم من احتفاظ كليهما بذات التسمية).
فمثلما شكلت النساء طليعة الثورات، فقد كن أيضا أكبر ضحايا الثورات المضادة، ما أدى إلى الانتقام منهن بمجرد أن تصور المضطهدون أنهن حققن انتصارا، و الذي أدركه تمامًا بأن الثوار(رجال ونساء)، لا ينسون ثورتهم؛ و أحلام الشعوب لا تتلاشى، لأنها تتحقق في النهاية. إلا عندنا التهمت الثورة النساء، و أثبت التاريخ بأن هناك ثقبا أسودا ينبغي أن يردم، لتستطيع الأجيال حين تقرأ معرفة الحقيقة، مثلما سردت في معظم الشهادات و ليس جميعها.
على الرغم من أني توقفت اعتزازا، عند كلمة ماهية نجيب إلى وزير المستعمرات البريطانية ومقال صافيناز خليفة عن الحجاب، و قول عايدة علي سعيد: (أن استقلالية المرأة تتطلب نظاما ثوريا تقدميا).
ما بعد 1990م، لا و لن أبرر أن النظام السياسي وحده يتحمل المسؤولية، لا لأن تاريخ النضال يدل على غير ذلك بدليل تونس و مصر و لبنان... و هذا جزء آخر مما التهمه الثقب الأسود، ففصل بين الأمس و اليوم.
كان لا ينبغي أن نترك نحن الجيل الذي منتصف عمره عاش في ج.ي.د.ش و بين الوحدة اليمنية، لا تترك هوة شاسعة بين فترة التنوير و فترة التجهيل، فنُسقى بمعلومات متضاربة و متناقضة بين من يعتبرن منتصرات حينها و مهزومات في حين آخر. في حين أن الحقيقة الغائبة، أوجدت معادلات متساوية لدى كلّ الأطراف إبان مرحلة التحرير و التنوير، فعضوية جمعية المرأة العربية والاعتصامات و المظاهرات و الزحف على المجلس التشريعي و التمثيل في فعاليات المرأة الدولية والإقليمية، و السفر إلى تعز لمباركة ثورة سبتمبر كان فيه النساء معًا.
أثبت تاريخ وحاضر الدول العربية، بأن النساء هُن مَن يقمن بتنظيم مظاهرات احتجاجية و المشاركة في الاعتصامات، مما يدل بوضوح على أنهن قررن مواصلة الكفاح من أجل الحرية. و نحن في هذا نحيا بالذكريات.
و أعطيكم بعض الأمثلة في سوريا، بقيت المرأة ثابتة في مواجهة كلٍ من الطغيان و التطرف، و في مصر، المرأة جريئة بما فيه الكفاية لانتقاد عدم وجود الحقوق و الحريات الأساسية، في ظل الحكم العسكري. و بعد الربيع العربي اختلفت النساء عمَّ كن عليه من قبل، و ازددن نضال و قوة. و هذا التغيير يشكل عنصرًا هامًا في استعادة الثورات.