رويدا رويدا تتدحرج مياه البحر في زيارات صباحية ومسائية، فتعانق الجبل والمدينة وأهلها في خليج الفيل والبريقا وساحل أبين والتواهي ويفتتح الصيادون يومهم بانطلاق قوارب الرزق مرددين حيا على العمل.
فتتبدى للمشاهد صورة وتاريخ وحضارة وهوية ومدنية، ومجتمع حي يؤمن بالانضباط والولاء للأرض وعشق كبير بلا حدود.
ست سنوات بالابتدائية، لا نفارق حصص الحقل والمزرعة والفلاح ومحبة الأرض وحبات المطر وأناشيد"ألا طيري ألا طيري" و"غني ياعصافيري"..
ثم ثلاث سنوات بالثانوية في رحلات مكوكية برفقة(رجال في الشمس) بصحبة الأديب غسان كنفاني وأستاذ اللغة العربية الكبير الأستاذ مجذوب، رحمة الله عليه، ونحن معلقون فوق الشمس نتبع أولئك الرجال الذين علقوا هناك لنذهب ونسامرهم سنوات طويلة.
كنا كالملائكة التي تنطلق في الأرض بعفوية..لم نجرؤ يوما أن نسأل أساتذتنا لماذا نحن معلقون في الشمس ثلاث سنين وما قيمة هذا؟
فلم يساورنا شك حول المنهج لقد كان عالمنا المزهر العفوي الصادق، الذي تذوقنا فيه جمال الحياة وبساطتها وصفائها ولقاء الأحبة ومدينة تتزين بثوبها الوردي الجميل.
ثم ثلاث سنوات بالجامعة ورحلات مكوكية أخرى بصحبة ماركس وإنجلز ولينين، مستنفرين ضد الراسمالي الطاغي والقيمة الزائدة، فخرجنا شعوبا وقبائل وطلاب وأساتذة نهتف للمنهج والفقير والصياد والعامل والفلاح والنجار، رافضين الإمبريالية المتعفنة، ويا ويل من بايعادينا قابوس أو السعودية.
وفي لحظة فارغة وجدنا الرفاق يهملون حصص الدرس، فيسلمون جمهورية عدن للرأسمالي التاجر في صنعاء. فحملنا شهادات البكالوريوس لا نعلم أين نتجه. ليأتي منهج جديد ليخبرنا بأن بقاءنا في الشمس ورحلاتنا مع ماركس ولينين كان عبثا واستهبالا.
وقفنا ثابتين نتشبت بحصص الدرس وبهويتنا وأرضنا، وفوجئنا بأن دولة النظام وقيادتها ومفكريها قد سافرو إلى بيت الرأسمالي الإمبريالي، واستقروا هناك فوقفنا على الأرض نبحث عن من نحن وأين نحن وما الذي حصل؟
وفجأة أطفئت الكهرباء وانقطعت المياه وتوقفت الرواتب واختفى الخبز، ومدينة فوضوية غريبة، لا نعرفها ولاتعرفنا ولم ننهل عنها أي حصة درس وجيوش وبنادق تمسك وتقبض على كل مفاصل الحياه.
كل المناهج تباع وتشترى..كل السياسة تبيع وتشتري..كل القيم تباع وتشترى..كل الجاهلين يبيعون ويشترون..إلا مناهج الرحمن لا تباع ولا تشترى، وبقيت ثابته..(( والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)).