عندما نضع رجالات الجبهة القومية الأوائل في ميزان التدقيق - ولا أقول التحقيق - والمحاسبة الوطنية؛ على أدائهم في التفاوض لنيل الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م لن تتسرب إلينا ذرة شك واحدة أن هؤلاء الرجال فرطوا بشبر واحد من الأرض أو تقاضوا جنيهًا واحدًا ليلعبوا دورًا مزدوجًا لصالح العجوز (بريطانيا)، فلم يكن قحطان الشعبي سوى موظف في الدولة الجديدة بدرجة رئيس جمهورية. وكذلك رفاقه فيصل والبيشي وهيثم وسالمين وعبدالفتاح ومطيع والعولقي وعنتر ووو إلخ. الكل يتقاضى راتبه لا غير.

استلموا دولة اتحادية بذاك الشكل الذي أرادته بريطانيا، ونجحوا إلى حدٍّ بعيد في توحيد كياناتها التي تربو على عشرين مشيخة وسلطنة وإمارة، وحافظوا على كيان ميناء عدن الذي كان دولة مخملية داخل كيان عدن الدولة (كسموبوليتكين)، يؤدي ما يفوق - أحيانا - ما تؤديه الإدارة البريطانية لصالح البنى التحتية والاقتصادية لعدن، في حين يتردد صداه كميناء وعدن كمنطقة حرة من سنغافورة وجنوب شرق آسيا إلى كندا والولايات المتحدة الأمريكية.

بريطانيا في ظل الصراع المحموم ولكنه غير المعلن، على مناطق نفوذها التاريخية في الخليج العربي مع الغول الاستعماري الكبير الولايات المتحدة (ربما) تكون قد دفعت للاتحاد السوفييتي مجالًا للدخول إلى مياه عدن الدافئة ليقف ندًّا للأمريكيين ويحد من تطلعاتهم في الجنوب. مقابل تشويه التجربة وشيطنتها ومغالاة زعمائها بالذهاب إلى الاشتراكية السوفيتية ورفع شعارات تصدير ذلك الفكر إلى دول الجزيرة والخليج العربي كفزاعة تجعل من الكيانات الخليجية الصغيرة أكثر إحساسًا بالحاجة إلى حضن بريطانيا الأم، وإن لم يدم ذلك طويلًا بأخذ الولايات المتحدة زمام المبادرة، ليكون العم سام (أمريكا) بديلًا للعجوز (بريطانيا).

لقد نجحت بريطانيا ذات النفس الإمبراطوري الطويل في وقت مبكر في إلباس الرمال المتحركة في ساحل عمان ثوب الدولة الاتحادية بصيغتها التي جربتها في الجنوب على مدى بضع سنوات قبيل الاستقلال، لتكون الإمارات العربية المتحدة دولة انموذجية لما رفضناه نحن وأبدلناه بجمهورية اليمن الجنوبية ثم الديمقراطية الشعبية.

ولعلنا نرى تحت المجهر أن،(الوحدة) بصيغة فاعلها البريطاني تكتسب عمرًا أطول من صيغ مشاريع الوحدة العربية بمبادرات وطنية مثل الوحدة المصرية - السورية عام 1958م ومع سوريا وليبيا على عهد السادات وحتى الوحدة اليمنية عام 1990م.

فالجامعة العربية مثلًا باقية رغم وهنها مذ العام 1948م وهي فكرة بريطانية تبناها أنتوني آيدن في حينه.

ولن نكرر ما قلناه عن الإمارات العربية مع تملص البحرين وقطر في اللحظات الأخيرة عن التوقيع والدخول في الدولة الجديدة عام 1971م وسط ذهول ودهشة الشيخ زائد رجل الوحدة - رحمه الله رحمة واسعة.

وربما لم يلحظ كثيرون ممن تابعوا حدث التوقيع على اتفاقية الوحدة والاستقلال للإمارات، أن آخر الموقعين عليها كان السفير البريطاني جيفرسون - إن لم تخن الذاكرة - سواء كان سفيرًا أو بمستوى ذلك، وقد حفظت مجلة (العربي) الكويتية وقائع ذلك الحدث الكبير بالتحليل والصورة في أحد أعدادها للعام 1971م.

وإن إدارة البلاد ستكون بريطانية كمفهوم ومصطلح وممارسة وهو ما نهض بهذه الدولة وبسرعة الصاروخ من بين أحضان الرمال المتحركة إلى فضاءات الدولة المتقدمة.

رب قائل يقول: إن ثروة النفط في إمارة أبوظبي وارتفاع أسعاره بعد حرب عام 1973م كان العامل الحاسم في ارتفاع (عقاب) الإمارات إلى عنان السماء، والحقيقة أن الثروة بدون إدارة عصرية هو تبديد للثروة ليس إلا، فالإدارة المكتسبة من خبرات بريطانيا هي عامل الفعل السحري في نهضة الإمارات وزميلاتها الأخريات في الخليج العربي.

بينما نحن قد أغرقنا أنفسنا منذ الثورة والاستقلال في هذه البلاد شمالًا وجنوبًا في التيه وراء الشعارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وأصبحنا ممثلين على المسرح الافتراضي يتقمصون الأدوار حد الاندماج في كل فكر رجعي كان أو تقدمي وابتعدنا عن إدارة البلاد بعقليات إدارية ذات نضوج تكنوقراطي وعلمي بعيدًا عن السياسة كما نفهمها نحن لا كما هي في بلدان العالم المتحضر.

لقد بعنا الوهم - و لازلنا بشكل أسوأ اليوم - و افتتنا به وتغنينا به وكفرنا كل ناقد أو خارج عن حلبة التهريج، و.. كلما جاءت أمة لعنت أختها، بينما ثروتنا النفطية والغازية تحت الأرض وعلى الأرض أكثر مما لدى الأشقاء المجاورين، لكن لم تتبلور القيادة الوطنية المسؤولة لترشيده وإدارته بالكيفية الإدارية التي شهدتها دول الجوار النفطية بما ينعكس على حال الناس ومعيشتهم.

يكفي أن ما يستنزف من ثرواتنا وباعتراف مسؤولين كبار يصل إلى أرقام فلكية بالترليون الدولار تحت مبررات الحرب القائمة بينما 80 ٪ من سكان اليمن تحت خط الفقر ومعرضون للمجاعة في أي حين.

ويكفي أن ينام المرء ويصحو على مشكلة الكهرباء والموت حَرًّا منذ عشر سنوات وكأن المسؤولين المتوحدين علينا جنوبًا وشمالًا معنيون بإنزال هذا العقاب الجماعي على الشعب مقابل ما ينهبونه من الكهرباء والوقود والميناء لنظل على هذه الحالة البائسة.

بالإمكان الآن أن تتداعى القوى الوطنية الحرة من خارج النخب التي فقدت مصداقيتها لتشكيل حكومة إنقاذ وطنية نزيهة من تكنوقراط وشخصيات إدارية وأكاديمية تستطيع أن تتعامل بندية مع الأشقاء والأصدقاء وستجد حتمًا القبول من الطرفين بعد أن جرب الجميع قيادات لا تفكر إلا في ترتيب أوضاعها على حساب المعاناة الجمعية للشعب والاستمرار في تأبيد الوضع الهش في البلاد لبقاء مصالحها على جريرة (مصائب قوم عند قوم فوائد) حتى ولو كانت الفائدة على حساب شعب بأكمله.

وهو ما لا يريده الحلفاء الأقربون التائقون إلى عهد جديد في بلدانهم لن ينالوه طالما بقي الوضع في اليمن على حاله وحالته.