> عزالدين سعيد الأصبحي:

​تدخل القضية اليمنية مرحلة جمود واضحة، ولا يعني ذلك توقف المواجهات العسكرية الواسعة، بل هو توار إلى حد ما على مستوى الاهتمام العالمي والإقليمي، ولم تعد أخبار التطورات على الأرض تحظى بصدارة الاهتمام العالمي والعربي!. وتبقى في انتظار العودة إلى دائرة الضوء. فالمنطقة كلها غارقة في بحر من الهم يتجاوز نبع الآلام اليمنية، والعالم مضطرب بحيث لا وقت له لسماع أنّات المقهورين فى بلد السبئيين.

أخيرا حدثت تطورات مهمة على ثلاثة أصعدة في اليمن، هي ذات أثر محلي بالغ الأهمية وسيكون لها تبعاتها على مستوى المشهد المستقبلي لكل اليمن.

الأول: قرارات مهمة للبنك المركزى اليمني، والثاني: ما شهدته صنعاء من اختطاف لعدد واسع من المواطنين وناشطي المجتمع المدني وموظفين سابقين لدى سفارات أجنبية والمنظمات الدولية. 
والثالث: الاتفاق على فتح معابر بالطرق الرئيسية لمدينة تعز المحاصرة من قبل ميليشيات الحوثي منذ تسع سنوات.

كل حدث من تلك الأحداث هو في صدارة الاهتمام الشعبي وله الكثير من الأثر داخليا، ولكن من يسمع الآن بمعاناة الشعب اليمني الصابر هم قلة متعبة بعيدة أيضا عن دائرة الضوء، فالعالم يتخبط بمشكلاته أيضا.
وبالعودة إلى تلك التطورات اليمنية المهمة، يمكن القول إن إجراءات البنك المركزى اليمني هى خطوة متأخرة منذ أربع سنوات حسب خبراء الشأن الاقتصادي، حيث منع الحوثي آنذاك تداول العملة الوطنية بحجة أنها طبعة جديدة وسار لسنوات في طريق واضح معلنا إجراءات انفصال مصرفي كامل بدأً بسنِّ قانون خاص بمنع الأرباح البنكية أو ما اسماه منع النظم الربوية وانتهاءً بالسطو المباشر على أموال المودعين، وذاك بعد أن انتهى من السطو على كامل مدخرات البنك المركزى اليمني فى صنعاء، بحيث لم يأت قرار الحكومة الشرعية بنقل صلاحيات البنك المركزي اليمني إلى عدن إلا بعد أن خسر البلد كامل احتياطه النقدي، واستفاق الناس على فاجعة أن البلد صار دون نقد واحتياط نقدي. لذا ما أسميت بحرب البنك المركزي جاءت متأخرة وبعد أضرارٍ ليس من السهل جبرها. ومع ذلك قبل الناس بالخطوة.

الجانب الثاني: عملية اختطاف واسعة طالت عشرات الأشخاص رجالاً ونساءً بتهم تثير العجب، وهي أنهم في المجتمع المدني، أو عملوا موظفين في منظمات وهيئات ووكالات الأمم المتحدة وفي سفارات أجنبية، بالذات السفارة الأمريكية بصنعاء وهذه مغلقة منذ 2014، ومن كان يعمل فيها أصبح اليوم موظفاً سابقاً أو متقاعداً منهكاً على المعاش، لكن الجماعة التى أرادت إظهار ملهاة للناس على حساب مأساة بشرٍ لا حول لهم ولا حظ، عمدت إلى إخراج فيلم هوليودي عجيب يقول إنها قبضت على خلية تجسس أمريكية إسرائيلية تعمل منذ عقود، الأدلة التى تقول إن الجهاز الأمني للميليشيات حصل عليها هى مجرد صور ملفات الموظفين وفيها شهادات تقييم عملهم من رؤسائهم السابقين في العمل، وكتب فيها أنهم مثلاً مثابر وجيد وغير ذلك من كلمات الاستحسان والإطراء، لتصبح استمارة التقييم الوظيفي الداخلي تلك دليل انتماء للاستخبارات العالمية، والأدلة الأخرى تثير الشفقة وتظهر مدى البؤس الذى ينتظر بلد الإيمان وهي تهم مثل تنفيذ برامج في الصحة الإنجابية أو الوعي بحقوق المرأة، أو دورة فى الزراعة أو التربية، أو حتى الزائر الدولي لأمريكا، ولنا أن نتخيل القهر الذي حل بهؤلاء من جبروت سلطة القمع الرهيبة، ويعكس هذا الأمر حقيقة الحوثي وجوهر تفكيره الذي يرى فى كل شيء مؤامرة، وكل الناس أعداء بما فيهم بعض من ناصره وتشيع له. 
فالقبضة الأمنية هي الأساس، وجوهر الفكرة لديه إحاطة المجتمع بدائرة قمع رهيبة، وتعزيز سلطة الاستبداد بوهم أن ذلك يضمن استمرار نظام القطيع للحاكم المستبد. فالجماعة تُمارس التعذيب والاحتجاز التعسفى والإخفاء القسري، ومنذ الوهلة الأولى عمدت إلى تكثيفٍ ملحوظِ وسريعٍ للسلطويّة الاستبداديّة.

وخلال عشر سنوات قامَ الحوثي بقمعِ الأطراف السياسية بما فيها التي تعاونت معه بشدّة، بل بنى «دولة بوليسيّة» بامتياز، وصار القمع حياة معاشة ممنهجة شدَّدت من المراقبة الإلكترونيّة التي صارت على نطاقٍ واسع، كما ضيّقت الخناق على وسائل الإعلام وعملت على إسكات جميع الأصوات المنتقدة. او حتى المشتكية من سوء المعيشة، ذاك هو مجمل الصورة التي أنتجت الفيلم الهوليودي العجيب، وأظهرت عدداً من المعتقلين في الأقبية منذ سنوات وهم يعانون آثار التعذيب وأمراض واضحة من الجلطات إلى فقدان التركيز، ليقولوا كلاماً مكتوباً فيه إمعان بالقهر لم يسبق له مثيل. ذاك حدث مؤلمٌ إنسانياً، ومخجلٌ أن تتناقله وسائل إعلام عربية على أنه إنجاز أمني، فى تشجيع للفاشية غير مفهوم. والأكثر خجلا هو صمت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وحاملي المباخر من مؤيدي الاستبداد ذو الصورة الرمادية.

أما حدث فتح معابر لتعز المحاصرة، فهى قصة تحكي عن وصول الإنهاك مداه لدى كل المؤسسات، وتظهر مدى صمود المجتمع، وتبرز أن حل قضية تعز وإعادة الاعتبار لدورها هو مفتاح الاستقرار في اليمن. وتلك قصة أخرى! بحاجة إلى وقفة أوسع.
عن "الأهرام"