> عبدالله أبوبكر بارحمة:
يتحدث (عوفاديا هليل) بحزن وانكسار كبير وهو يروي قصته قائلا: "في طريق هجرتنا الأخيرة من شبوة إلى عدن توقفت شاحنتنا في منتصف الطريق في منطقة معادية عشية العام الجديد، وفجأة هاجمنا اللصوص، وصادروا أموالنا ومجوهراتنا وطعامنا، وحتى ملابس العيد، وتركونا في الصحراء نتنهد.. عراة ومعوزين ولم ننم طوال اليوم، ومن الصعب أن أصف بالكلمات كيف كنا على وشك الصلاة على شاطئ البحر، نساء ورجال يبكون ومنكسري القلوب، لكننا أقمنا الصلاة، وجلسنا في أماكننا في انتظار إعلان الله".

- مدينة حبان التاريخية
حبان مديرية تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من محافظة شبوة واشتق اسمها من مدينة حبان التاريخية، وحبان اسم ورد في النقوش العربية الجنوبية (ح ب ن) في سياق النقش السبئي الشهير بنقش النصر الكبير للمكرب السبئي كرب ايل وتر في القرن السابع قبل الميلاد، وتشير المصادر التاريخية أن حبان هو اسم لقبيلة كانت تسيطر على تلك المنطقة إبان حكم المكرب السبئي.
كانت حبان تقع على مفترق طرق وتشكل محطة مهمة على طريق القوافل التجارية القادمة من الموانئ البحرية جنوباً مثل ميناء قنا التاريخي والذاهبة إلى الممالك اليمنية القديمة مثل قتبان وسبأ ومعين , وفي فترة متأخرة نوعا ما خضعت حبان لحكم الدولة الطاهرية في القرن الخامس عشر الميلادي؛ ومن ثم أصبحت فيما بعد مركزاً لسلطنة الواحدي التي أفل نجمها في سبعينيات القرن المنصرم.

- الوجود اليهودي في اليمن
الفصل الأول في قصة يهود حبان يمكننا أن نصفه بالمبهم إلى حد ما، ولا يمكن للمتتبع أن يصل إلى إجابة شافية مكتملة، مثله مثل بداية الوجود اليهودي في اليمن بشكل عام ولكي نفهم أكثر ونجيب قدر الإمكان عن سؤال من أين جاء يهود حبان ؟علينا أن نعود إلى الوراء كثيرا فبحسب كاميليا أبو جبل في كتابها (يهود اليمن) ثمة ثلاث روايات شهيرة حول بداية الوجود اليهودي في اليمن:
أولها أن يهود اليمن ينتمون إلى أولئك الذين رافقوا ملكة سبأ بعد عودتها من زيارة الملك سليمان مثل ما جاء في سفر الملوك الإصحاح العاشر، وهناك من يعتقد أن بداية وجودهم كان في أعقاب خراب الهيكل، وثمة رواية لابن هشام الحميري في (السيرة النبوية لابن هشام) يعتقد فيها أن بداية وجودهم يعود إلى عصر ملك حمير تبان أسعد الذي تشير الروايات أنه مر خلال إحدى غزواته بيثرب، فأعجب بحبران من أحبار اليهود، واتبع دينهما وأخذهما معه إلى اليمن، وأمر قومه باتباعهم.

- حياة المجتمع اليهودي في حبان
عاش يهود حبان، واستقروا في حيهم الخاص بالقرب من قصر السلطان في بيوت تتكون من أربعة إلى خمسة طوابق، وكونوا مجتمعًا متكاملًا خاصًا بهم، واتسمت علاقتهم بجيرانهم المسلمين بالود والتسامح والتبادل التجاري والمعرفي، وبلغ أقصى عدد لهم ما يقارب 450 شخصاً وشكلوا نصف سكان المدينة تقريبا، وتوزعوا على خمس عوائل رئيسية: مطوف، هليل، شماخ، ميفاي وعداني.
هؤلاء اليهود الحبانيون بتوصيف الكاتب يوسف عشار " توقف الزمن بالنسبة لهم، وتنطبق عليهم أوصاف الشخصيات التوراتية التي تتجنب القتال، وتعود من سباق التاريخ" ويؤكد هذا الكلام جوزيف هاليفي قائلا: المظهر الخارجي ليهود حبان يميزهم عن جميع أسباط إسرائيل، فلا يمكنك العثور على مجتمع يهودي يشبه هذا المجتمع في أسلوب حياته. وتشير هذه الحقيقة إلى قدم هذا المجتمع وعزلته عن بقية مجتمعات إسرائيل لأجيال عديدة.
ولكي نفهم أكثر هذا المجتمع الذي توقف الزمن بالنسبة له علينا أن نتجول في أزقة حافة اليهود القديمة التي أعطاهم إياها السلطان، وكانت منطقة تقع تحت قصر السلطان (المصنعة) مباشرة، وتشرف على كريف الماء، وتضم حوالي 50 بيتًا، وتحتوي على معبدين رئيسيين هما معبد معاتوف ومعبد هليل الذين كان يهود حبان يؤدون صلاة يوم السبت فيهما.
وإذا ما واصلنا السير سنرى المقبرة الخاصة بهم وكذلك الدكاكين الصغيرة التي كانوا يمارسون فيها حرفهم اليدوية مثل دبغ الجلود والترقيع وصياغة الفضة وصناعة الأدوات الزراعية والأسلحة البيضاء حيث برعوا في هذه الصناعة بشكل كبير ويمكننا أن نرى بجلاء آثار هذه البراعة في مظهر النساء اليهوديات خلال تلك الفترة، وبقدر ما برعوا في الحرف اليدوية، فقد كانت لهم بعض المشاركات في القتال بجانب جيرانهم العرب، وخاضوا معهم العديد من الغارات ولا بد أن السلطان الواحدي كان يعتمد عليهم في بعض الأمور القتالية؛ نظرا لقوة ومتانة أجسامهم وتفوقهم البدني الواضح على جيرانهم مثل ما تقول بعض الروايات التاريخية.
ووفقاً للباحث محمد الحوت في كتابه (ما جادت به الأزمان من أخبار منطقة حبان) فقد كان اليهود يتداخلون مع الناس في البيع والشراء، وكانوا يتنقلون بين مختلف المناطق المجاورة وقلما يتعرض لهم أحد بالأذى لمعرفة الجميع أن لهم حق الذمة مقابل ما يدفعونه للسلطان من جزية مقابل الرعاية والحماية.
- الهجرة من حبان .. على أجنحة النسور
بالعودة إلى قصة الهجرة من شبوة والتي يرويها عوفاديا هليل في لقاء صحفي معه يجب علينا أن نُعرج قبل ذلك سريعا على بداية الهجرة ومسبباتها، فالعملية معقدة وطويلة، وسميت بعملية ( بساط الريح) أو (على أجنحة النسور),أشرفت عليها ومولتها الوكالة اليهودية، ونفذتها الجمعية اليهودية في عدن بحسب وثائق الأرشيف البريطاني، حيث تم ترحيل نحو 50 ألف يهودي - تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب- من مختلف مناطق اليمن، ومن ضمنهم يهود حبان واستمرت العملية قرابة العامين، وكلفت قرابة السبعة ملايين دولار وكان للحاكم البريطاني في عدن وأتباعه سلاطين المحميات والإمام أحمد بن يحيى دور كبير في تسهيل هذه العملية وفقا لمساعد وزير الخارجية البريطاني آنذاك مثلما ذكر في مذكراته، وللعملية أهداف كثيرة من أهمها الاستيطان في فلسطين، إضافة إلى جانب آخر مهم وهو الاستفادة من يهود اليمن في الأعمال الزراعية بعد عزوف يهود الأشكناز وترفعهم عن هذه الأعمال.
يروي عوفاديا هليل قصة وصول خبر الهجرة إلى فلسطين المحتلة بينما كان هو خارج مدينة حبان قائلا: جاء إلينا خبر الصعود إلى إسرائيل متأخرا لسبب ما، فلم ننفس عن فرحتنا، لأننا شعرنا بعدم اليقين؛ ولذلك أرسلنا ثلاثة رسل موثوقين من بيننا ليسألوا ويؤكدوا الخبر السار أخيرًا. وصل الرسل إلى مدينة "حبان" ووجدوا أن اليهود جميعهم كانوا جالسين بالفعل مزدحمين في الشاحنات، على وشك الذهاب إلى عدن، وعلى الفور رجعوا إلينا، وأخبرونا أن الإشاعة صحيحة، على الفور أخذنا أغراضنا ومشاعر الفرح التي غمرتنا لا توصف.)
يكمل عوفاديا قصته: استأجرنا أحد الوثنيين المخلصين مقابل ستين ريالاً حتى يتمكن من تهريبنا عبر طرق متعرجة؛ ومن ثم جاءت شاحنة لتأخذنا من معسكرنا في ( لهوتا)، طبعًا رفضنا مخالفة السبت، وتأخرت الرحلة حتى يوم الأحد، ومن هناك توجهنا نحو مدينة (راشوم) حيث وصلنا عشية رأس السنة الجديدة.
- واقع يهود حبان اليوم
خلال بحثي حول مجتمع يهود حبان تعرفت إلى سِغِيف وهو باحث مهتم بالتاريخ والثقافة ومن أصول شبوانيه حيث ولد والده ووالدته في مدينة حبان وترعرعوا فيها ولديه علاقة جيدة وتصالح كبير مع تاريخ أجداده وسيكون سعيداً إذا ما سنحت له الفرصة في يوم من الأيام لزيارة مدينة حبان ,حدثني سِغِيف بشكل مفصل عن كيف تحافظ (الجالية الحَبّانية) على عاداتها ولهجتها وعادات الزواج التي تختلف عن بقية اليهود، كذلك طريقتهم وأسلوبهم في اللبس، والتي تظهر جلية في الأعياد اليهودية المختلفة، إضافة إلى الأطباق الشعبية التي يتم إعدادها وطهيها إلى اليوم بالطريقة الحبانية في بلدتهم الصغيرة بركت والتي تعتبر المركز الرئيسي لهم، لكن لم يعد الكثير يتمركزون فيها اليوم، بل توزعوا على مناطق مختلفة.
"الموقع بوست"