عدن كانت مستقلة وذات حكم نيابي متطور يضاهي حكومات سبقت الزمن وكانت حالة استثناء في الجزيرة العربية كلها، وإن كانت تحت علم الاستعمار البريطاني، فقد تهيأت لتصبح جمهورية عدنية عربية وتشبه البحرين إلى حد كبير، وجنبها سارت حضرموت في تطوير أمورها كسلطنات ذات حكم يدير الحضارم أحوالهم في داخلها وخارجها، وكانت لهم أكثر من عاصمة يشعرون فيها بالدفء والمال والأعمال والرفاهية امتدادا من دار السلام إلى مقديشو وصولا إلى جاكرتا وسنغافورة ومالديف، وهذا أنشأ فيهم حب الحكم والإدارة والعلاقات الكبرى من لندن إلى حيدر أباد وامستردام وكيب تاون.

تعلم الحضارم الحكم قبل أن يوقعوا في شباك الشعارات المنادية بالفكر القومي والأفكار المختنقة التي تجوب المنطقة وأظهرت عاطفة دفاقة ثم تحولت إلى أطماع خيبت الآمال وقضت على حقبة من عصر كان يمكن أن يزدهر وتنمو فيه فكرة التعايش بعيدا عن الجيوش والغزو والحروب الداخلية التي كتبت نهاية حلم الأمة والتعايش وجعل المنطقة الممتدة من رأس العارة إلى حوف أغنى وأجمل وأقوم حكما لو تشابه مع فيدراليات أمريكا أو كندا أو ماليزيا، لكن هذا ما جنته أفعالنا علينا تسابقنا في تجزئة المنطقة من دون أن ندرك أن هناك أطرافا تغرس كل هذا السم بدهاء وتجرعناه كلنا.

حضرموت أول من أدار نظام الفيدرالية وحول الحواجز الداخلية جسرا ما بين الجغرافيا والمال وسبقت في وضع نظام الحكم البلدي في سيئون والمكلا والمجالس القروية وأسس تنظيم المجتمع، كان حكامها من الذكاء واستعانوا بخبراء من غير حضرموت ونجحوا ولم تأت حقبة الستينيات إلا وقطعت حضرموت شوطا مباركا وكبيرا ومؤثرا في صناعة السكينة والتنمية للمنطقة كلها امتدادًا من الكويت إلى تعز والدوحة ومسقط أيضا، وجعلت من هذه التقاليد هي الغالب على منطق الصراع والجنوح إلى البحث عن أنظمة تتقاتل فيما بينها في دمشق وبغداد وبيروت وكل همها شعارات انتزعت من أفكار غيرنا وليس نابعة من الأصل كفاحا وتاريخا.

حضرموت أعطت درسا ناضجا يوم توقفت عن خوض الصراع الدموي وأطاعت رغبة المنطقة وهي مليئة الفلوس والكفاءات، وجعلت من مكانتها ركيزة لأن ينهج الرفاق الجدد فكرة أن ندخل في تعايش جمهوري وتجربة تضمن التنمية وصون الدماء والصراعات التي أكلت البلد فيما بعد وحولته إلى حطام يصعب استعادته في الوقت الحاضر واللاحق القريب.

هي من أقام نظام المجالس المحلية وعرفت انتخابات البلدية وقوانين تنظيم المجتمع والتجارة، وتشابهت مع عدن في النمو برغم الفوارق حينا والالتقاء حينا آخر، وليس صحيحا أن تتبع حضرموت عدن، أو العكس كان كل المؤهلات والعوامل تتيح للآخر نموا مستقلا منفردا ناجحا وهو ما طبق بعدئذ في دولة الإمارات جنبنا ومن بعدنا.

لم نفق مما وقعنا فيه إلا حين تصادمت الأفكار والجراح ووجدنا أن الحلول هي عبر الصراعات واعتقدنا -والعلم عند الله- أن المخرج ما بعد حتمية الصراع ببشاعته وحجم الدم فيه، وهكذا توقف العقل وسقطت الآمال وهربت الحلول، ونسأل الله أن يكف البعض من أمراء الفتنة في عدن وحضرموت من إشعال كير الفتن، والعودة إلى ما بنيت عليه الأوضاع في حضرموت وعدن أيضا، وربما يحتاج العودة إلى تراث الحكم القديم وتنقيته إذ يعد أفضل بكثير من الأحزمة والعصابات المسلحة والتدخلات الخارجية ومن التشرذم أو دعوات لا أساس لها على الواقع ولا تنتمي لنا أو كما يقول المثل الشعبي "لا أنا من البرامكة ولا البرامكة مني".