> محمد أبو الفضل:

كل الدول رتبت أو ترتب أوراقها للتعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة تحت رئاسة دونالد ترامب في العشرين من يناير المقبل، بعد أن طويت صفحة الرئيس جو بايدن بكل ما شابها من حيرة وارتباك وتناقض حيال قضايا عديدة، ومصر واحدة من الدول التي بدأت علاقاتها مع بايدن بصورة غير مريحة في ظل تعقيدات بالغة، ثم استقرت في ظل تطورات إقليمية متلاحقة فرضت توظيف الجزء المضيء فيها لصالح البلدين.

مرت هذه الفترة بحلوها ومرّها، على أمل ضبط المزيد من مفاصل العلاقات بين القاهرة وواشنطن في عهد ترامب، اعتمادًا على ميراث إيجابي خلفته إدارته السابقة في ولايته الأولى، وبدا الإعلان عن صفقة عسكرية مع مصر، إشارة قوية على أن الفترة المقبلة ستشهد انفتاحا أكبر، فالصفقة التي كشف عنها، السبت، يصعب أن توافق عليها إدارة جو بايدن من دون موافقة أو استطلاع رأي إدارة دونالد ترامب.

أبلغت وزارة الخارجية الكونغرس أنها وافقت على بيع تجهيزات خاصة بـ555 دبابة من طراز “إيه1أم1 أبرامز” بقيمة 4.69 مليار دولار، و2183 صاروخ جو – أرض من طراز “هلفاير” بقيمة 630 مليون دولار، وذخائر موجّهة بقيمة 30 مليونا.

وحمل خطاب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أمام قمة الدول الثماني النامية بالقاهرة، الخميس، رسائل سياسية عديدة، بينها ما يخص الإدارة الأميركية الجديدة، حيث حوى إشارة مباشرة لحل القضية الفلسطينية على أساس القرارات الدولية، أي عدم الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ورفض ضم هضبة الجولان إليها، وهما صكان منحهما الرئيس ترامب في إدارته السابقة لإسرائيل، ويعول عليه رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في الحصول على المزيد من الدعم.

وإذا جاراه ترامب في هذه المسألة، فإن علاقته بالسيسي الذي اعتبره من قبل “جنراله المفضل” في ولايته الأولى قد يشوبها بعض التوتر، وهذا يعني أن ولايته الثانية لن تكون مريحة بينهما، وأن مياها مليئة بالشوائب يمكن أن تجري.

لم تظهر ملامح محددة تؤكد أن ترامب في فترة رئاسته الثانية سيكون هو ذاته في رئاسته الأولى مع القاهرة، أو سيدخل تعديلات جوهرية على رؤيته السابقة، لكن التطورات التي جرت في المنطقة، والتوجهات المتباينة في واشنطن، والأجندة التي يحملها ترامب، تشير إلى حدوث خلاف بين ولايتيه الأولى والثانية، والميراث الذي تركته إدارة بايدن لن يتم تجاوزه سريعا، من ناحيتي الارتباك والتناقض.

ما يؤكد أن العلاقة بين مصر والولايات المتحدة سوف تكون في حاجة إلى بعض الوقت لبلورة معالمها الجديدة في عهد ترامب، ومحاولة الاستفادة من الأجزاء المضيئة في الولاية الأولى، التي توفر قاعدة جيدة للتفاهم في عدد من القضايا المهمة، لكن الموقف من الطموحات الإسرائيلية الكبيرة لإعادة ترتيب المنطقة بما يناسب مصالحها سيكون عقبة أمام تطوير العلاقات بين القاهرة وواشنطن ما لم يتم التوصل إلى تفاهمات مشتركة.

تجاوزت مصر الكثير من المطبات مع إدارة بايدن، ومعظمها انصب على خلافات ثنائية مؤقتة، ولم تمثل الصعوبات الإقليمية أزمة هيكلية بينهما، لأن بايدن حاول المواءمة بين علاقة بلاده الاستراتيجية مع إسرائيل وبين العلاقة الحيوية مع مصر، وفي أوج دعمه للأولى لم يكن فجا مع الثانية، وانخرطت واشنطن في وساطة مع القاهرة والدوحة لوقف الحرب في قطاع غزة.

كان دعم الولايات المتحدة في مجمله قريبا (في الظاهر) مما هو متعارف عليه بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، بينما إدارة ترامب ممكن أن تعصف بذلك، وتجعل قربها في الظاهر والباطن بعيدًا تمامًا عمّا هو متعارف عليه في الأدبيات السياسية، وهي واحدة من نقاط الخلاف التي قد تنشب بين مصر والولايات المتحدة في عهد ترامب.

تستعد مصر للتعامل مع إدارة ترامب على أساس النقاط المشتركة لتعزيز العلاقات الثنائية أولا، وربما تترك الجزء الإقليمي مؤقتا، لأن التفاهمات في الأولى لن تكون صعبة، فترامب لا يميل إلى استخدام ورقتي الحريات وحقوق الإنسان للضغط على مصر أو غيرها، وكانتا منغصتين كبيرتين في بداية عهد بايدن، إلى أن تم تهميشهما مع تنامي الصراعات الإقليمية.

ومن المرجح أن تصبح هذه الزاوية (الصراعات) وآليات التعاطي معها هي المحك المفصلي لرسم شكل العلاقة بين واشنطن والقاهرة، التي سوف يتوقف شكلها على عنصرين، الأول: طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر في الصراعات المعقدة في المنطقة، والثاني: ماذا يريد الرئيس الأميركي الجديد – القديم من نظيره المصري؟

حصرت مصر دورها خلال الفترة الماضية في نطاق الوساطة لعقد صفقة الأسرى، وأوشكت أن تنضج والتوقيع على اتفاق بشأنها، والتفرغ للنتائج المترتبة عليه التي لن تكون مصر بعيدة عن روافدها، فهناك حلقات طويلة، بدءا من شكل السلطة في غزة وحتى إعادة الإعمار، تستلزم الانخراط فيها من جانب القاهرة، بما لا ينسيها ما يجري في سوريا التي تسعى تركيا لتكون الكفيلة الحصرية للحكم فيها، وقد يتوقف تمدد أو انحسار دور مصر على الآليات التي سيتعامل بها ترامب مع سوريا، وهل يكف يد بلاده عنها وينسحب منها، كما قيل في وقت سابق، أم يضاعف من انخراطه؟

الإجابة على هذا السؤال هي التي تتكفل بمعرفة ماذا يريد ترامب من السيسي، ولأن الإدارة الأميركية الجديدة قد لا تطمئن كثيرًا إلى انفراد أنقرة بسوريا، حيث تخشى أن تعود الجماعات المتطرفة إلى الواجهة، فإن ترامب سيعول على التعاون مع السيسي، حيث تملك القاهرة خبرة كبيرة في معرفة دهاليز المتطرفين، ولديها ذخيرة معلوماتية جيدة عنهم، ومن مصلحة مصر ألا تكون بعيدة عمّا يجري في سوريا، ما يقود إلى توسيع نطاق التفاهم على المستوى الإقليمي بين ترامب والسيسي، فإيران غير مرحب بنشاطها، وتركيا ثمة توجس من دورها مع احتضانها لجماعات إسلامية متطرفة.

من هنا يكمن الفرق بين إدارتي بايدن وترامب في نظر القاهرة، فالأولى لم تمانع من هيمنة جماعة الإخوان على السلطة بأيّ وسيلة، والثانية لديها تحفظات كبيرة، ولا ترى فروقا جوهرية بين جماعة الإخوان وبين غيرها من الجماعات المتطرفة، وهو ما يتسق مع الرؤية المصرية، التي سيحاول السيسي توظيفها لخلق تفاهم قوي مع ترامب، والبناء عليه من أجل تقريب المسافات حيال تباعد كليهما من القضية الفلسطينية التي تريد إسرائيل تصفيتها من خلال صفقة قرن أعلن عنها ترامب في ولايته الأولى، أو عبر ابتلاع المزيد من الأراضي العربية بما لا يجعل هذه القضية قابلة للحياة.

وفي الحالتين على القاهرة تعزيز مكانتها الإقليمية كي تستطيع إقناع ترامب بخطورة انسجامه مع جموح نتنياهو في المنطقة، وأن الهدوء والأمن والاستقرار والسلام الذي تريده واشنطن لن يتحقق بزيادة تغول إسرائيل فيها.

"العرب"