قد تذكرنا العقدة اليزنية بالإضرار السياسي القائم على ردات الفعل السريعة دون الأخذ بعين الاعتبار المآلات والنتائج والحسبة المستقبلية.

ومع ذلك يظل سيف بن ذي يزن بطلا ومحررا في عقلية مماثلة تتعاطى مع التاريخ بقياس الانطباعي الآني المتواتر عن نصر بطعم الخيانة، لأنه مهد السبيل للأجنبي بأن يقيم حيث كان قائما الاحتلال الأول بطبيعة الحال.. الحبشي.

ومن الإنصاف في التاريخ والاجتماع على السواء إرجاع الشعوبية التي أطلت برأسها جلية في العصر العباسي الأول بين الفرس والعرب، من وجهة نظر مؤرخين عرب كثر، إرجاعها إلى اليمن، ومن قرون على قيام دولة العباسيين عام 132هـ، حين اشتد الصراع الثقافي والأدبي بين الفرس (الأبناء) واليمنيين (د. جعفر ظفاري).

ولربما نتذكر أيضا تحرير أحبار اليهود من قبل الفرس، بعد أخذهم أسرى إلى بابل، حيث احتل نبوخذ نصر دون هوادة فلسطين، واقتادهم إلى العراق (بابل) أسرى، وهؤلاء هم الأحبار الذين خطوا إضافات عنصرية من تلقاء أنفسهم على التوراة الأصلية ليبرروا العودة إلى فلسطين وقتل أهل البلاد الأصليين بدعوى أنها كلام الههم (يهوه) كما يدعون.

وعندما من الله على الفرس بالإسلام ما انفك كثير منهم أسيرا للثقافات والخرافات الفارسية القديمة، وجابهوا دولتي الخلافة الأموية والعباسية، وكانوا سببا في كثير من الحركات العسكرية والانفصالية التي روعت الخلافتين.

ومع أنهم كانوا إحدى القوى الاساسية بعد العرب التي أوصلت العباسيين إلى الحكم إلا أن أطماعهم السياسية بدأت مع بداية تأسيس هذه الدولة لولا يقظة كثير من الخلفاء الأفذاذ مثل أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد، مع أنهم لم يحرموا عند بني العباسي من الاستثار بالوزارة كنصيب مستقطع لهم.

إن ذلك لا يراد منه التعميم بقدر ما يراد منه التخصيص لأصحاب النزعات المعادية للعرب بادعائهم أنهم أصحاب حضارة رائدة ودولة عظمى عز عليهم أن تسقط تحت سنابك خيل العرب الفاتحين القادمين من صحاري الجزيرة العربية.

إن نفسية الاستعلاء الفارسية جرت نفسها حتى تاريخنا المعاصر، وكان أنموذجها شاهنشاه الملوك محمد رضا بهلوي، ثم ورثة العرش: ملالي الثورة الإسلامية الإيرانية، الذين رفعوا الشعارات الشعبوية وبثوا الإذاعات الموجهة نحو بلدان الخليج العربي والعراق في منحى تبشيري بتصدير الثورة.

ولإنعاش الذاكرة فقد نشطت إسرائيل لتوفير السلاح لإيران الخميني المحاصرة وقد بانت معالم هذه الصفقة بما عرف حينها بـ (إيران جيت) لوقف تقدم الجيش العراقي.

ولأن إيران الملالي تتفوق في والتلفع بالشعارات الرنانة ذات المضامين الشعبوية والعاطفية لاستجلاب الأنصار فإنها أيضا على استعداد لبيعهم بأبخس الأثمان أو المساومة بهم في سوق المصالح المتبادلة بينها وبين أمريكا وإسرائيل من تحت الطاولة أو من فوقها أيضا إذا لزم الأمر.

ومع المتاجرة بمحور المقاومة والنفخ فيه إلا أنها لم تترد في تقديم المحور المقاوم على طبق من ذهب لإسرائيل عندما حانت اللحظة المناسبة.

ظلت غزة تنزف دما وإيران تتفرج، وفي خضم المعارك تقدم إيران رأس هنية بدون ثمن على أرضها.

وعندما جاء الرد الإيراني على إسرائيل التي ضربت دفاعاتها الجوية المتطورة، كان الرد أشبه بألعاب نارية.

وفي حزب الله الذي انطلت عليه اللعبة، وتضخمت مليشياته على حساب الدولة اللبنانية وجيشها لتغدو المليشيا أكثر وأقوى فعالية من الجميع مما عرقل لبنان سياديا من داخله، وعطل أسسه التوافقية التي قام عليها تاريخيا.

وربما كان الصوت العالي للسيد نصر الله آتيا من قناعاته أن ظهره مسنود إلى إيران بميزة المذهب الشيعي الاثني عشري أيضا، لكن الاختراقات الأمنية كانت تلقي بظلالها مع كل سقوط للقادة بدون استثناء من نصر الله والصف الأول وحتى الثاني، في عملية ميلودرامية لا نستطيع فك رموزها وربما تستطيع طهران أو قم أن تفعل ذلك عاجلا أو آجلا.

إن أجادت إيران لدور البعبع الذي مارسته على دول الخليج العربي، بالاتفاق غير المعلن مع الولايات المتحدة الأمريكية، لتحريك مصانع الأسلحة ولعودة دولارات النفط إلى بيت الطاعة الأمريكي، يشبه تماما ما حدث لسوريا وجيشها في صفقة أخرى مع إيران غير معلنة أيضا مقابل عودتها الطبيعية إلى العالم بعيدا عن الحصار المفروض عليها والسماح لها بدور محدود في محيطها الإقليمي ضمن خيارات أمريكية، فهي غير قادرة على لعب دور التحدي وخلق المحاور في ظل رئاسة ترامب القادمة.

ولأن هناك ما يخفيه الرماد من نار قد تشتعل في أي وقت في إيران بسبب المعاناة الجمعية للشعب الإيراني المتعدد القوميات والأعراق والأديان والمذاهب.

وهنا يجب أن يتعظ الحوثيون وأن لا يكرروا سيناريو حزب الله وسوريا وغزة بالاعتماد على إيران.

فالتضخيم الإعلامي لضربات الحوثيين التي لم تقتل أحدا في إسرائيل وكانت سببا مباشرا لوصول الأساطيل الحربية الأمريكية والغربية إلى البحر الأحمر لوقف التنين الصيني ومنعه من التمدد في المياه الدافئة، هو ما يجعل أمريكا راضية عن هجمات الحوثي وتركها تمر من فوق أساطيلها بحيث لا تؤدي إلى ضرر حقيقي لإسرائيل مقابل البقاء في المنطقة وتدمير البنية التحتية وكل ما بناه اليمنيون خلال عقود، لتزداد المعاناة والبؤس فوق ما عانته اليمن من الحرب العبثية التي فجرها الحوثيون أنفسهم ومازلنا نجني ثمارها.