في أواخر عهد إدارة ترامب الأولى، بدا أن واشنطن قررت تهدئة جبهة اليمن. لم يُعلن عن وقفٍ رسمي لإطلاق النار مع جماعة الحوثي، لكن واشنطن عمدت إلى خفض حدة المواجهة، سواء ميدانياً أو سياسياً، في ما يشبه الهدنة الضمنية. هذه الخطوة، التي بدت في ظاهرها تكتيكية، كانت لها نتائج إقليمية بعيدة المدى، إذ منحت الحوثيين فسحة للتمدد، وسمحت لإيران بإعادة ترتيب أوراقها، لكنها في المقابل كشفت هشاشة محور المقاومة، وأظهرت حدود قدرته على التمدد وسط بيئة إقليمية متقلبة.

وما زاد المشهد تعقيدًا هو التناقض الذي طبع مقاربة ترامب نفسه، فبينما تبنّى خفض التصعيد فعليًّا على الأرض، عاد في الأيام الأخيرة من ولايته الأولى ليصعّد الحصار السياسي على الحوثيين بإدراجهم كمنظمة إرهابية أجنبية. هذا القرار، الذي جاء بعد إعلان فوز جو بايدن بالرئاسة، لم يكن انعكاساً لتحول استراتيجي مدروس بقدر ما كان ورقة ضغط متأخرة في سياق تصعيد مع إيران، أكثر مما هو توجه حقيقي لمعالجة الأزمة اليمنية. ولعل سرعة التراجع عن هذا التصنيف مع بداية عهد بايدن تُبرز الطبيعة الرمزية والانفعالية لذلك القرار، وتعمّق الارتباك في قراءة الدور الأميركي في اليمن.



الحوثيون من صنعاء إلى غزة… تصعيد رمزي أم انكشاف استراتيجي؟

استغل الحوثيون التراخي الأميركي المؤقت لرفع سقف خطابهم، وتقديم أنفسهم كجزء أصيل من محور المقاومة الممتد من غزة إلى طهران. وفي ظل العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلنوا انخراطهم الرمزي والعملياتي من خلال استهداف السفن وتهديد خطوط الملاحة في البحر الأحمر. إلا أن هذا التصعيد لم يمر مرور الكرام، فكان الرد الأميركي والغربي حاسماً عبر ضربات جوية مباشرة، وعمليات عسكرية بحرية شكلت ضغطاً حقيقياً على الجماعة.

وهنا تبيّن أن توسّع الدور الحوثي لم يكن بالضرورة مؤشراً على صعود مستقر، بل قد يكون مقدمة لانكشاف استراتيجي أوسع، تماماً كما جرى لحزب الله الذي تكبد خسائر جسيمة في جنوب لبنان، أو الفصائل المدعومة من إيران في سوريا والتي استهدفتها الضربات الإسرائيلية المتكررة.



تقارب الرياض وطهران: مناورات اضطرارية لا تحالفات ثابتة

في ظل هذا المناخ المتوتر، أدركت السعودية أن استمرار الحرب في اليمن دون غطاء أميركي مباشر لم يعد خياراً آمناً، فبدأت بفتح قنوات التهدئة مع طهران. جاء اتفاق بكين عام 2023 تتويجاً لهذا التوجه البراغماتي، إلا أن طبيعته كانت أقرب إلى وقف نزيف لا إلى بناء تحالف إقليمي.

فبالرغم من محاولات إيران تصوير الاتفاق كنجاح لمحورها، جاءت التطورات الميدانية في غزة وسوريا ولبنان لتقوض هذا الادعاء، وتُظهر أن التقارب مع الرياض لم يكن كافياً لتعويض الخسائر الميدانية التي يتكبدها حلفاؤها.



اليمن كساحة تفاوض غير معلنة بين واشنطن وطهران

خلال فترة ما بعد اغتيال قاسم سليماني، اختارت طهران اللعب بحذر، وامتنعت عن التصعيد المباشر مع واشنطن. اليمن هنا لعب دور “صندوق رسائل”، حيث أعطت واشنطن إشارات تهدئة عبر خفض التصعيد، فيما حاولت إيران ضبط سلوك الحوثيين وفق إيقاعها الإقليمي.

لكن تطورات العام الأخير، وخاصة تصاعد الخسائر في سوريا ولبنان، أضعفت قدرة طهران على التحكم الكامل في وكلائها، ما قلّص من فعالية اليمن كساحة آمنة للمناورة، وأعاد إشعال التوترات البحرية والدبلوماسية التي كان يُفترض احتواؤها.



ختاماً: صعود قصير أم بداية انحدار؟

منح وقف التصعيد الأميركي الحوثيين فرصة لإعادة التموضع، لكنه لم يوفّر لهم غطاءً استراتيجياً دائماً. فكلما حاولوا تصدير أنفسهم كفاعل إقليمي كبير، جاءت ردود الفعل الدولية لتذكّرهم بحدود أدوارهم. أما محور المقاومة، فرغم محاولاته تصوير المشهد كصعود موحّد، فإنه يواجه اليوم واقعاً مختلفاً: خسائر متراكمة، تصدّع في الخطاب، وتآكل في أدوات الردع.

الهدنة التي أرادتها إدارة ترامب كخطوة تكتيكية أفرزت واقعاً أكثر تعقيداً - منحت الحوثيين صوتاً، لكنها سلّطت عليهم ضوءاً لا يرحم، وعرّت المحور الذي ينتمون إليه من كثير من أوهام التمدد والسيطرة.