في زمنٍ ليس بالبعيد، كانت عدن مدينةً تُشبه النشيد، لا تُغنّى بل تُعاش. مدينة تنبض بالتنوّع كما ينبض القلب بالحياة، وتكتب على جدرانها قصائد من تعايش وسلام.. واليوم، تعود الذاكرة لتطرح أسئلتها: ماذا تغيّر؟ ومَن غيّره؟
فكيف تبدّل اللحن يا عدن؟
أيُّ ريحٍ تلك التي أطفأت شموع التسامح في مآذنك؟
من كسر المرآة التي كنّا نرى فيها أنفسنا متعدّدين، ولكن منسجمين؟
وأين ذهبت البسمة التي كانت تسكن وجوه أطفالك، رغم بساطة الحياة؟
لكنّي أؤمن، يا عدن، أن الذاكرة لا تموت. وأنكِ، مثل البحر، تعرفين كيف تستعيدين مدّك بعد كل جزر.
ربما كانت الإجابة في قلوب أبنائك وبناتك، الذين لا زالوا يتذكرونك مدينةً من نور، لا من نار...
عدن ليست ذكرى فقط، بل قدرات مكنونة. إن سمعنا صوتها جيدًا، سنجد أن المدينة لا تزال تُنادي أبناءها: تعالوا، لا تتركوني وحيدة في ظلال الذاكرة.
وأنتَ — يا ابن عدن — حين تُصغي بصدقٍ لتاريخك، تُعيد رسم الطريق نحو الغد.
فالقصيدة لم تنتهِ بعد... والنشيد لا يزال ممكنًا.
عدن، يا زهرة نبتت بين البحر والجبل، يا بندرًا يهمس للتاريخ كما تهمس الأم لرضيعها، كنتِ مرآةً ناصعةً تُطلّ منها شعوبٌ شتى، وأديانٌ شتى، وألسنةٌ تتباين ثم تتآلف كما تتآلف ألوان السماء عند المغيب.
في شوارعك القديمة، كان صوت المؤذن يتداخل برقة مع أجراس الكنائس، لا صراع بينهما، بل سيمفونية سلام يعزفها الزمن على أوتار قلوب الناس. المعبد اليهودي لم يكن غريبًا، بل كان جارك الذي تبتسم له كل صباح، وكان معبد الفرس يطلّ من على جبل شمسان، شاهدًا على العصور، يضيف للذاكرة وزنًا، وللمكان معنى، والمسجد لم يكن إلا بيتًا من بيوت الروح، مفتوحًا لكل عابرٍ يبحث عن سكينة.
عدن كانت قصيدةً كتبتها الحضارات بالحبر والملح، وعلّقتها على جدران الزمان. كان الهندي واليوناني، العربي والحبشي، والبريطاني واليمني يعيشون تحت سقفك، يتبادلون الخبز والحديث، والأحلام الصغيرة.
كان المقهى يضجّ بلغاتٍ شتّى، وكأن الأرصفة كانت تتقن الترجمة. في سوق المعلا، كانت البهارات الهندية تتراقص مع بخور الجاوي، وتصافحها نغمةٌ يمنية تُعزف على عودٍ تعب من الحنين. حتى رائحة الخبز في الفجر كانت مختلفة — كأنها خُبزت على نار من المحبة، لا من الحطب. وفي المساء، كانت الوجوه تتلاقى بلا سيوف الأسئلة: من أنت؟ ومن أين؟ بل فقط: كيف حالك اليوم؟
أيُّ ريحٍ تلك التي أطفأت شموع التسامح في مآذنك؟
متى أصبحت الحدود داخلية بدل أن تكون حِمى للوطن كله؟
وأين ذهبت البسمة التي كانت تسكن وجوه أطفالك، رغم بساطة الحياة؟
هل هي النزاعات التي مزّقت نسيجك؟ أم الفقر الذي سرق من الناس صبرهم؟ أم أن الخوف حين يتمكن من القلوب، يجرّدها من الرحمة؟
ربما كانت الإجابة في قلوب أبنائك وبناتك، الذين لا زالوا يتذكرونك مدينةً من نور، لا من نار...
مدينةً كانت تشبه النشيد.
فأنتِ — يا ابنة عدن — حين تكتبين، وحين تروين، وحين تحلمين، تفتحين نافذة للضوء.
فالقصيدة لم تنتهِ بعد... والنشيد لا يزال ممكنًا.