> عياش علي محمد
في ليلة مقمرة من ليالي شهر حزيران الصيفية خرجت في نزهة قصيرة أتجول في ضواحي الحوطة القائضة، فمررت بجانب منزل الفنان فيصل علوي فلمحته جالساً على جذع شجرة معمرة ممدودة على الأرض فألقيت عليه السلام، وكان هادئاً صامتاً، عقله يسبح في ملكوت الله..
ناديته مرة أخرى واقتربت قليلا منه، انتبه لصوتي هذه المرة وناداني للجلوس بجانبه وكنت فقط أريد أن أدي له التحية ثم أمضي في سبيلي، ولكنه أصر علي أن أجلس بجانبه فلديه أشياء تدور في خلده ويريد أن يتحرر منها.. فلبيت طلبه وقعدت بجانبه، أستأذن مني دقيقة ليذهب إلى شقته ويحضر لي كوبا من الشاي لم أتذوق مثل طعمه من قبل.
أمسك بن علوي بخيط الحديث وأخذ في تمجيد الخوالي من الأيام، والأوقات السعيدة والبراءة عند الناس، وصدق المشاعر والمحبة ولا أدري كيف أني لمحت قطرات من الدمع تتساقط على الأرض دون أن تمر على خده.
قال فيصل علوي بطريقته المعهودة في الإجابة إني لا أبكي يا عياش إني فقد أتألم..
هذه الكلمات جعلت باقي دموعه تذرف وقال لي لن أقول لك شيئاً عن أحزاني ولكني سأسمعك لحنا وقصيدة غنائية ستعرف بعدها أحزاني هذه..
انا المجروح يا عالم * وجرحي من أعز الناس
وجارح مهجتي ظالم * بلا رحمة ولا إحساس
هرمني خده الناعم * حرمني قدّه المياس
تركني في ظنى دايم * أسير الحيرة والوسواس
أعيش في دنيتي هايم * أخاف أصبح ضحية ناس
وياما لامني اللايم * وهذا اللوم ماله ساس
على ما بي نا نادم * لأني في الهوى حساس
بحالي ربنا عالم * وعندي للوفاء مقياس
منين العافية قادم * إذا كان الوجع في الرأس
ولا شيء فادني سالم * ولا جعفر ولا عباس
مصالح كلها العالم * مصالح والنبي ياناس
أنا المجروح
وقد فهمت بعد انتهائه من أغنيته أن الفنانيين أحزانهم أكثر عمقاً وإيلاماً من أحزان الآخرين، فودعته ومضيت في سبيلي تاركاً (لفيصل علوي) فضاءً واسعاً جديرا باحتواء أحزانه وآلامه ودموعه..
فيصل علوي ووصية ضارب الإيقاع فضل ميزر
ولد الفنان فضل ميزر خميس عام 1944م ودرس في المدرسة المحسنية، ودخل عالم الغناء وهو في عز الشباب، وتعرف على الفنان فيصل علوي في 1959م، أي في بداية التحاق الفنان فيصل علوي بالفن، وعمل معه كضارب إيقاع وامتدت زمالتهما إلى أكثر من أربعين عاماً قضاها مع أنغام الفنان فيصل علوي في رحاله وترحاله.
وأطرب الناس بإيقاع أنامله وفي حضوره الفني ودقات إيقاعه المتميزة بحيث يجعل المرء مشدودا بكل عواطفه تجاه تلك اللمسات الحنونة التي يضيفها (ميزر) على إيقاعه فيصبح المستمع أسيراً بين نغمات العود الفيصلي وبين إيقاع الفنان ميزر.
وبينما تسحر الكلمات متذوقي الشعر الغنائي اللحجي فإن الإيقاع يظل بين يدي (ميزر) طائعاً ومستسلماً لأنامل (ميزر)، حيث يغذيه من شذرات روحه وقلبه وعواطفه.
لقد أحب الفنان فضل ميزر صوت العلاو، كما يسميه أهالي لحج، وأخلص له وقطع معه مسافات طويلة من الترحال من أجل خدمة التراث اللحجي الذي كان هدفاً لكليهما من أجل تنميته وتطويره والحفاظ عليه، وبذلا قصارا جهدهما لأجل امتداده في الوطن وخارجه.
وكان ميزر فناناً قدم للجمهور بصوته أغاني جميلة مثل: أغنية بو العيون السود، ويا شاكي غرامك، قصدي من الزين نظرة، والأغنية القمندانية (إذا رايت على شمسان في عدن).
توفي الفنان ضارب الإيقاع فضل ميزر عام 2015 وتم دفنه في قرية (هران ديان بلحج).
وقد أوصى المرحوم فضل ميزر، قبل وفاته أن يسلم راتبه إذا جاءه الأجل إلى أخته القعيدة في قرية (هدان ديان).